الأم ملاك دائماً، هكذا نصوّرها في الوطن العربي، إنها أسيرة صورة واحدة، ربما كانت أغنية «ست الحبايب» للراحلة فايزة أحمد أبلغ تعبير عنها. ولكننا نتناسى أن الأمهات ينتمين إلى أنماط مختلفة، منها النساء اللواتي قرّرن الانحياز إلى أنوثتهن وجمالهن معتبراتٍ الأمومة عبئاً ثقيلاً

بيسان طي
تجلس ميراي وراء طاولة الاحتفال متجهّمة، تقترب منها طفلتها روان (6 أعوام) تقبّلها، تقول بتلعثم «كل عيد وأنت بخير يا ماما»، ترسم الأم ابتسامة مصطنعة، تقبّل الفتاة بسرعة وتضيف «شكراً حبيبتي يللا روحي العبي فأنا أتحدث مع جارتنا».
تبتعد الابنة خطوات، تحاول الأم أن تتأكد أنها ابتعدت، تتوجّه إلى جارتها « هذا عيد!!! إنه الهم والنكد والمسؤولية، الأمومة عذاب فلماذا العيد؟».
الناظر إلى ميراي ستفاجئه كلماتها، الشابة الجميلة غاية في الأناقة، تتنظر المساء بفارغ الصبر لتمضي سهرة مع حبيبها، إنها امرأة مطلّقة، أحبت زوجها بجنون ولكنها ذاقت معه سنوات من العذاب.
سناء من جهتها، تهيّأت للعيد منذ الصباح، والاستعدادات شملت زيارات متتالية إلى مصفّف الشعر وصالون الماكياج وصالون التدليك والـ Spa، كانت جاهزة للمشاركة في وجبة غداء عائلية، جمعتها استثنائياً بزوجها وابنتيها وابنها. في هذا العيد كانت سناء جميلة جداً ومتألقة، تحتفل بدورها كأم، عانقت الأبناء بحرارة، فتحت الهدايا التي حملوها إليها، قطعت قالب الكاتو، غنّت معهم، ولكن لكل شيء نهاية، فهي بعد ساعة عادت إلى روتينها اليومي، إلى الصديقات والنزهات، واطمأنت إلى أن الخادمة لن تسهو عن الأولاد «لا تتلهّي بأمور تافهة، عينك على الصغار».
سناء تشبه أمهات كثيرات نصادفهن في لبنان، نشاهدن في المطاعم ومراكز التسوق والمقاهي، يكنّ غالباً مع الأصدقاء، وإذا اصطحبن الأولاد في نزهة تتولى الخادمة الأجنبية أمر الاهتمام بهم، اللهو معهم، ومتابعتهم...
لا تعترف سناء بأنها تكره الأمومة، ترفض هذه الوظيفة، تردّ على سؤال عن عدم اهتمامها بأولادها بالتالي «هل تعني الأمومة أن أدفن نفسي؟ أولادي سيفخرون بي لأنني امرأة عصرية»، وتعتقد أنها تعرف الكثير عن الأولاد، تفاجأ أحياناً بما تنقله إليها الخادمة، وترد بطريقة دفاعية «هي تعرف عنهم أموراً تافهة».
ميراي مثال مختلف، تعلن رفضها للأمومة، الابنة يجب ألا تلتصق بها، تخنقها إذا اقتربت منها، لا تجد تفسيراً لآرائها، هي تحب ابنتها كثيراً، ولكنها ترى أنّ الأمومة وظيفة مرهقة
وإجبارية.
في كتابهما «Mères- Filles, une relation à trois» تتحدث الباحثتان ـــــ المتخصّصتان في العلاج النفسي ـــــ كارولين ألياشيف وناتالي هاينش، عن نساء يفضّلن كينونة «المرأة» على وظيفة الأمومة «إنهن نساء أكثر من كونهن أمهات» هكذا يمكن ترجمة عنوان الفصل المخصص لهذا النوع من السيدات.
تركز الباحثتان في الكتاب على الشخص الثالث، الأب عادة، الذي يمثّل الضلع الثالث في علاقة تجمع الأب والأم والابن (أو الابنة)، وفي حالة النساء المنحازات إلى كيانهن كنساء جميلات أو جذّابات (أو ربما ناجحات...) فإن الولد هو الطرف الأضعف في هذه العلاقة، يكاد يكون طرفاً «مستثنىً» من دفء الحب، إنه شخص إضافي نوعاً ما، وذلك على رغم تأكيد أن الأمومة أو حب الولد شعور تحسّه كل الأمهات، ولكن كيفية تعاطي كل امرأة مع هذا الشعور يختلف عن النساء الأخريات.
في الحالات التي نتحدث عنها، نقرأ في الكتاب أن المرأة تقيم علاقة عشق مع زوجها، أو عشيقها، أو مهنتها، أو مشروع أو هدف ترسمه لنفسها، وفي هذه الحالة تتقلص مكانة الابن (أو الابنة غالباً) في سلّم أولوياتها واهتماماتها.
وتلفت الكاتبتان في هذه الحالة إلى أن الابن ـــــ الصبي ـــــ أقل عرضة من الابنة للتعرض لهذا النوع من التحييد، أو أن تحييده يجري بطريقة أقل قساوة، وذلك بسبب المكانة الاجتماعية المتقدمة التي يحتلها الذكور في عدد كبير من المجتمعات الإنسانية.
قد يجد البعض الكلام عن هذا النوع من الأمهات غريباً، ونقرأ في الكتاب «من لم يعش هذه التجربة، فسيجد صعوبة في تخيّل الآلام التي تحدثها ـــــ آلام يعانيها الأبناء طبعاً، أما الأولاد الذين قاسوها فإنهم سيجدون صعوبة كبيرة في البحث عن الكلام الذي يفسرها، وهم بالتأكيد بحاجة إلى الخضوع لتشخيص
تحليلي».
يُذكر أخيراً أن إعلان رفض «قدسية» الأمومة أمر صعب في المجتمعات العربية، ولكن في دول أوروبية كثيرة ثمة نساء بتن يعلنّ رفضهن لما سمّينَه «أعباء» الأمومة، وقد صدر أخيراً في باريس كتاب بعنوان «أمهات سيئات: كل الحقيقة بشأن الطفل الأول»، وقد شاركت ست نساء (أمهات) في كتابته.


إلكترا الضحية الأولى

تقول الأسطورة اليونانية إن إلكترا هي ابنة امرأة عاشقة Clymnestre التي خططت لاغتيال زوجها أغممنون، وقد شارك العشيق في عملية القتل، الذي «اغتصب» مكان الأب في حياة الابنة، وفق ما تكتب ألياشيف وهاينش.
هاملت أيضاً، البطل الشكسبيري، يمثّل نموذجاً عالمياً لابن عانى إهمال أمه من عشقها المجنون لزوجها الثاني، صار الابن طرفاً ضعيفاً في حياتها واهتماماتها. على أي حال يمكننا أن نقع في الكتابات والأفلام الأجنبية على أمثلة متنوعة لنساء لا يولين اهتماماً كبيراً للأمومة، منها مثلاً فيلم إنغمار برغمان «Sonate D automne» حيث الأم الجميلة تنظر بتعالٍ إلى ابنتها التي ترى أنّها أقل جمالاً وأقل مكانةً منها