كأنّ مرسمه العمّاني آلة لعبور الزمن، تعيده إلى قريته الفلسطينيّة قبل النكبة. شغل ابن الخليل الشاغل كان أن يصبح مقاتلاً، إلى أن اكتشف على غلاف مجلّة «فلسطين الثورة» وجه عجوز فلسطينيّة تحت عنوان «لن نغفر». من سلاحَي الجوّ الأردني والليبي، عاد المهاجر إلى رحم أرضه الأولى، وصار ينحت ويرسم ويُحيي ذاكرة المسحوقين

أحمد الزعتري
تقلّنا سيارة الأجرة إلى إحدى الحارات الضيقة والمستشرية في جبل «القصور» في عمّان. تسميّةٌ فاخرة لمكان تشكِّله مجموعة من البيوت المتواضعة والقديمة التي تطلُّ عليها القصور الملكيَّة. من تلك الأزقَّة يطلّ رجل سبعيني نحيل، زاهدٌ في ملابسه كمن خرج من مشغل نجارة، سيجارة «الهيشي» تضفي ملمحاً كاريكاتوريّاً على طلّته. كأنَّ عبد الحيّ مسلَّم حين يدلف مرسمه، يدخل في آلة الزمن. «عندما أدخل أصير في مكان ثانٍ وزمان آخر: في قريتي قبل عام 1948».
كان من الممكن لقرية الدوايمة في قضاء الخليل، حيث ولد مسلَّم أن تكون مجرّد قرية متعبة ومنسية على هامش التاريخ، لولا أن تراكمت الأحداث والمجازر في تلك الأرض الطوباوية وشرّدته باكراً. اليتيم الذي التصق بالأنثى منذ طفولته، لم يكن قد تجاوز الخامسة حين توفي والده ليترك امرأة تعول عائلة مكوّنة من خمس فتيات وعبد الحيّ، الصبي الوحيد. الجوّ الأنثوي لم يفارق لوحاته، شقيقاته كن يصطحبنه إلى الطقوس القروية: التطريز والطهور والعرس والحصاد وطقوس شهر رمضان. كذلك يذكر مضافات الرجال وأحاديثهم. كانت الأجيال تتوارث الألم: شهد من سبقوه انهيار الدولة العثمانية وتفكُّكَها، ثم الانتداب البريطاني، ليجيء دوره ويرث آثار الاحتلال الإسرائيلي منذ بداياته.
هُجِّر عبد الحي مع عائلته ولجأوا إلى أريحا على أمل أن يعودوا بعد عشرة أيام. ولمّا لم تتحقق الوعود، عمل في بيع الدخان، وشارك في الحصاد ليعول أهله حتى انتقلوا إلى عمّان سنة 1955، بعدما فقدوا الأمل في الرجوع إلى الدوايمة.
أثناء ذلك، تزوّج وكان لا بدّ له من أن يستقرَّ إيذاناً بحياته الجديدة، رغم كلّ شيء. وجد بيتاً معقولاً وعملاً ممتازاً، كهربائيّ في سلاح الجو الملكي، وابتعث إلى بريطانيا في دورة خاصة. هذا الاستقرار الظاهري لم يمنعه من المشاركة في أحداث «أيلول الأسود» في عام 1970، وبالتالي أن يخرج من عمّان مع الفدائيين إلى سوريا.
هناك، بدأ مسلَّم حياة أخرى، كأنَّه استيقظ فجأة وأدرك أنّ له قضيّة يدافع عنها. أصبح شغله الشاغل حمل البندقيّة والتحوّل إلى مقاتل. وبهذا الدافع، انخرط في كوادر «حركة فتح» ليرى عن قرب «قصص فتح والفساد وازدواجية القادة». لذا اتبع قدره مرة أخرى إلى ليبيا، حيث أرسلته «منظمة التحرير الفلسطينيّة» للعمل في سلاح الجو الليبي «بهدف التهيؤ لتحرير فلسطين». إن سألت مسلَّم عن عمره، فسيقول: «ولدت في عام 1970». آنذاك كان يستغل وقت فراغه في صناعة تماثيل من خشب للفدائيين، حتى وقع على غلاف مجلة «فلسطين الثورة» التي كانت تصوّر عجوزاً فلسطينيّة تحت عنوان «لن نغفر». نزع الغلاف ووضع على ملامح العجوز عجينة من النشارة والغراء التي تعلّم صنعها من جاره النجّار. أعجب مسلّم بالنتيجة، وأصبح يقضي وقتاً أكبر في عزلته حتى افتقده زملاؤه في «لعب ورق الشدّة». حين يزوره أحدهم ويرى تماثيله المتكاثرة، يقول: «إنت انجنيت أكيد يا أبو يوسف، لازم نوديك عالعصفورية». لكنَّ «أبو يوسف» كان قد بدأ يشعر بأن ثمّة رؤيةً تتفتّح داخله لأنّ «الضغط النفسي قد هدأ».
اشتغل عبد الحي مسلَّم على أعماله بهدوء حتى موعد «معرض طرابلس الدولي»، إذ عرض عليه صديق في «اتحاد المعلمين الفلسطينيين» المشاركة ضمن جناح فلسطين. ومرّت السنون عليه في طرابلس الغرب. ذات يوم زاره الروائي والسياسي يحيى يخلُف ورأى نتاج تلك السنوات، وكان أن دعاه إلى مؤتمر تأسيس «اتحاد الفنانين الفلسطينيين» في عام 1979. وهناك التقى بصديقه المقرّب الفنان مصطفى الحلّاج.
لم يكن مسلَّم يختلط مع الفنانين ما عدا صديقه الحلّاج. «شعرت بأنّه أطلَّ على داخلي وفهمني»، إضافة إلى الفنانين التشكيليين إسماعيل شمّوط وعبد الرحمن المزيّن. كان فنّانو هذا الوسط يقللون طوال الوقت من قيمة الوسائل الفنية التي ابتكرها بنفسه، لكنّه كان «كمن ولد له طفل بعد انتظار 30 عاماً، ويحاول أن يحميه من الآخرين». على رغم عزلته الصامتة وفنّه الشديد الخصوصية، هاجمه كثيرون بقسوة، كما فعل الشاعر والرسام السوري حسين حمزة حين دخل مرسمه لاحقاً في دمشق وقال: «كله بده حرق».
لاحقاً، على حاجز «الفاكهاني» خلال حصار بيروت في عام 1982، سيتحقّق حلمه ويحمل البندقيّة، لكن على مَن؟ ولمصلحة مَن؟ يتهرّب مسلَّم من آرائه السياسيّة الآن والخوض في هذا الماضي: «الفن عوضني، ووجدت أنّ الثقافة رديفٌ للبندقيّة». ترك حلمه وبندقيته على ذلك الحاجز لينجز 14 عملاً على الرصيف. ومرّ محمود درويش وإسماعيل شمّوط وشفيق الحوت به، وهو مستغرق في عمله ليزودوه بـ«البضاعة»: نشارة، خشب، وغراء. تلك المواد المختلطة صنعت جبلة فنية لأعماله، حتى إن المرء يحار في تصنيفها. أهو نحت أم رسم؟ إنه ينحت الأشكال والأجساد والبيوت ثم يعيد إنتاجها في لوحة، مستنداً إلى مشهد من مشاهد الفولكلور، أو موثّقاً لمقطع من أغنية فولكلورية فلسطينية.
ويمكننا القول إن عبد الحي مسلَّم عاش عصراً ذهبياً بعدما غادر بيروت إلى دمشق، حيث أسّس مع الفنانين مصطفى الحلّاج وغازي انعيم «صالة ناجي العلي للفنون التشكيليّة» بعد اغتيال الفنان الفلسطيني الكبير في لندن. خلال تلك المرحلة عمل بغزارة، وأنتج أكثر من 1200 لوحة جاب بها العالم، من ألمانيا إلى الدول الإسكندنافيّة والفيليبين وكندا، وصولاً إلى طوكيو.
اليوم يقف أبو يوسف على أعتاب الثمانينيات، ويعود طفلاً ما أن يدخل المرسم. يعوِّل على أن تستفز أعماله ذاكرة الناس. هؤلاء الذين يترسّبون على شكل طبقة مسحوقة، يجد فيهم رصيده الشخصي. «أكثر ما يؤثّر بي رؤية عجوز فلسطينيّة تبكي أمام لوحة من لوحاتي».


5 تواريخ

1933
الولادة في قرية الدوايمة، قضاء الخليل (فلسطين)

1955
لجأ إلى الأردن وانخرط في سلاح الجو، بعدما فقد أي أمل في العودة إلى قريته

1970
اكتشف موهبته الفنيّة أثناء عمله في سلاح الجو الليبي

1988
أسس مع مصطفى الحلاج وغازي انعيم «صالة ناجي العلي للفنون التشكيليّة» في دمشق

2009
آخر أعماله لوحة عن عدوان غزّة، في الأردن الذي عاد إليه عام 1992