من كورنيش مدينته المطلّة على الشاطئ السوري، يتعرّف إلى الصيّادين، والبحّارة، وقتلة الوقت، ويدعوهم إلى قصائده. أحد أبرز شعراء السبعينيات، في «قبوه» تتراكم الذاكرة: أسطوانات وأفلام ولوحات وصور صارت موطنه، هو الذي لم يكن يوماً مولعاً بالأمكنة. زيارة إلى الباحث عن معنى العالم على شاطئ اللاذقيّة

زياد عبدالله
لا يمانع الشاعر السوري منذر مصري من أن يفاجئه مطر خفيف، من دون أن يفكِّر في ركوب سيارته أو الوقوف تحت شرفة. أقول له: «عرفتك من وقع خطاك الذي يشبه خطوات امرأة مسرعة. إلا أن امرأة مسرعة عبرت، من دون أن تنظر إلي. بعدها بلحظة فوجئت بك تقف أمامي». يذكّرني لقائي به بتلك القصيدة التي كتبها عن فتاة سُجنت لمجرِّد تركها الباب مفتوحاً. كم كانت اللاذقية تشبه ذلك: الفتاة والباب والقصيدة معاً.
كان مطر اللاذقية غزيراً، وكانت فكرة زيارة منذر في مرسمه، في شارع المتنبي تشبه إلى حدٍّ بعيد، البلل حتى العظم بهذه المدينة. «القبو» مُسمَّى منذر لمرسمه، «الأميركان» مُسمَّى أهل اللاذقية لشارع المتنبي، ومنذر يبادرك في الحال: «لو كان المتنبي حياً لعاش في أميركا ربما».
الغيوم المتجمّعة فوق البحر لجهة الكورنيش القديم، أشبه بقصائد منذر الذي يعتبر نفسه ابن شعراء ملعونين غير معترف بهم. وستكون استعادة «بشر اللاذقية وتواريخها وأمكنتها»، مطلباً قاتلاً، يجعل الذاكرة من لحم ودم. يستعيد الشاعر المقبرة الشرقية حيث أقيمت محطة القطار. من تلك المحطَّة، حمل خاله رفات جده في كيس من النايلون، ونقله على دراجته النارية إلى قبره الجديد في ظل جامع «المغربي»، حينها قالت جدته فاطمة روشن: «مكتوب له أن يركب الدراجة خلف أحد أولاده».
لن يتّسع «القبو» لعدد هائل من البشر تستحضرهم ذاكرة منذر مصري. سندعو أخته الشاعرة مرام مصري من باريس مع قصائدها التي تقطر عذوبة وأنوثة. سيحضر الشاعر محمد سيدة الذي سرقه الموت من دون أن «تنذره حمامة بيضاء» بموت آلامنا جميعاً خارجاً. وبالتأكيد سندعو صديقه مصطفى عنتابلي المقيم في دبي. كتب منذر قصائد عن مصطفى دفعت الأخير إلى القول: «لقد فضحتنا». قصائد تختلط فيها عبارات الصديقين، إلا أنّ مصطفى الذي كتب في السبعينيات: «لم أعد مضطرباً كثياب في غسالة» وجد في الشعر الكثير من الادّعاء والحذلقة.
ميادة زوجة منذر ستحضر أيضاً بتفانيها من أجل إحاطته بكل ما أوتيت من حنان، مع ابنه شكيب المتنقّل بين دبي والرياض، وابنه الأصغر خالد الذي يقطن في اللاذقية على مقربة من الشعر. منذر زوج وأب وعاشق وشاعر ورسام. في الصيف، يسبح يومياً في «الكورنيش الجنوبي»، تحديداًَ في «فشيفيش». المنطقة الوحيدة التي تُركت لشباب اللاذقية أن يسبحوا فيها بعيداً عن المنتجعات والمتنزّهات التي احتلت كل شيء. تلك المساحة في طريقها إلى الانقراض أمام المطاعم الكثيرة التي تجتاح الكورنيش. منذر يتعرّف إلى الجميع: الصيادين، البحّارة، قتلة الوقت، العاطلين عن العمل، الهائمين على وجوههم في طرقات اللاذقية. قد تجده برفقة مَن يخبرك أنّ دخاناً يخرج من جسده حين تطول فترة تعرضه للشمس، أو ستتعرّف من خلاله إلى رجل أربعيني مهووس بتجميع المجموعات الصوتية وأجهزة «سيتريو» ضخمة، مع أنّه لا يسمع الموسيقى. لعلّ قصيدة منذر «في بيروت سبح كالإنكليز» أتت من صحبة هؤلاء، واحتوت في جزء منها على خيالات مجنّد رواها لمنذر خلال خدمته العسكرية في حرب تشرين.
حين أسأل منذر عن نشأته، يجيب كأنّه يضع حدّاً لحديث كهذا: «لا أتذكر من نشأتي إلا الخوف». أستجيب له، وأترك الباب موارباً، سائلاً عن دراسته الجامعية. يقول: «درست في جامعة حلب الاختصاص الخطأ: الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي. لكنّني تعرفت هناك إلى بسام جبيلي ومأمون صقال وسعد يكن ولؤي كيالي. في حلب بدأتُ كتابة الشعر وصدَّقت أنّني رسام».
من حلب إلى اللاذقية. أصفه باللاذقاني حتى العظم، فيجيب: «اللاذقية تعني لي كل شيء. في ديوان «الشاي ليس بطيئاً» كتبت عنها قصيدة «لا أستطيع مغادرة الأغنية». هل أنا لاذقاني حتى العظم؟ ربما، لكنني لا أفهم هذه الحالة. فأنا لست مولعاً لهذه الدرجة بالأمكنة، ومع ذلك أحب حلب، كما أحببت بكل سخافة باريس ولندن!».
أسأله عن البحر، فيستدرك ما فاته قوله: «اللاذقية أعطتني كل ما لدي، إنّها مدينة شفوقة». يمضي إلى البحر مباشرة ويقول بحزم تام: «إنه أبي من دون استعارة، سأمضي الصيف المقبل في كوخ على شاطئ البصة». لكن، سرعان ما يطفو على السطح خلاف تاريخي بيني وبين منذر مصري. كنتُ من مشجعي نادي «تشرين»، بينما يشجع هو نادي «حطين»، ولكم أن تتخيلوا ما يمثّّله الانتماء لأحد هذين الناديين من أهمية في اللاذقية. إنّه مسألة حياة أو موت مرتبطة بكرة القدم. يقول منذر: «حطّين دمعتي وابتسامتي، لم أقع في حياتي على انتماء، أو تعصب سواه. أنا صاحب شعار: «كن طبيعياً، كن حطينياً». لا شيء كهذا النادي أشعرني بأني واحد من جماعة. كأنك طائر في سرب، لا بل حمار وحشي في قطيع».
«القبو» كما أعرفه من عشر سنوات. الكتب كما هي، وفي تزايد بالتأكيد. لوحات منذر، لوحة نزار صابور البديعة، قناني يلوّنها ويؤرّخها، تذكارات، مجموعة سكاكين، صور فوتوغرافية، وعدد هائل من الأسطوانات، ألبومات لها أن تكون كل حياته. اضطر صاحب الأسطوانات إلى إعادة تجميعها على أشرطة «كاسيت»، ومن ثم على أقراص «سي. دي»، إضافةً إلى عدد هائل من الأفلام كانت «في. أتش. أس.» ثمّ صارت «في. سي. دي»، ومن ثمّ «دي. في. دي». كان يضعها في متناول الجميع حين كانت لديه مكتبة «فكر وفن»، مقابل اشتراك سنوي زهيد.
منذر مصري موظّف في دائرة التخطيط منذ 1982، وفي شهر أيار (مايو) المقبل سيمسي متقاعداً. «يؤرقني الأمر»، يقول. «أنا في هذا العمل أكتب وأقرأ وأحياناً أرسم». في هذا العمل يستطيع أيضاً أن يجري معك لقاءً، ويخرج معك إن كان من شيء يستدعي ذلك، وأن يجتمع مع صديقه المفكر الراحل بوعلي ياسين الذي كان يعمل في الدائرة نفسها، وزميلتهما سميرة عوض على مائدة فطور، فتتحول المائدة إلى جلسة جرد كاملة لما هبَّ ودبَّ من أخبار ــــ تسرَّب بعضها إلى كتاب بوعلي «شمسات شباطية» ــــ ثمّ يعود كلّ واحد إلى طاولته. يقول منذر: «إنها حياة كاملة ستتغير مع مفارقتي هذا المكان». لعل مجرّد الاكتشاف أنّ منذر صار في سن التقاعد، بعيدٌ عن الاستيعاب تماماً... شكلاً وروحاً.
منذر لا يعيش ليكتب، بل ليكون «سعيداً وذا معنى»، لهذا يكتب ويعيش على السواء. لكنَّ ذلك كما يقول «مشروط بالآخرين». يضيف: «لا معنى لسعادتي من دون سعادة الآخرين، ولا معنى لمعناي من دون أن يكون لهم معنى. ما أعيش لأجله هو أن أعطي معنى لعالم ليس له معنى».


5 تواريخ

1949
الولادة في اللاذقية (سوريا)

1979
أصدر ديوانه الأوّل «بشر وتواريخ وأمكنة» عن وزارة الثقافة السوريّة

1997
أوّل تعاون مع «دار رياض الريّس» التي أصدرت «مزهرية على هيئة قبضة يد»، وبعدها «الشاي ليس بطيئاً» (2004)

2005
صدر له «أهل الساحل» وهو ترجمة لمنتخبات من شعره (دار آليدادس)

2009
يصدر قريباً الجزء الثاني من أعماله الشعريّة الكاملة، بعدما نشر «انعطافة السبعينات في الشعر السوري» عن الأمانة العامة لاحتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربيّة ــــ 2008»