عمار تقي *أثارت الإصلاحات الأخيرة التي شهدتها المملكة العربية السعودية، العديد من ردود الأفعال التي اعتبرها البعض «مفاجئة» و«استثنائية» نتيجة لطبيعة الأشخاص والمؤسسات التي طالها التعديل الأخير، حيث يرى بعض المراقبين أن هذه التعديلات ستدفع المجتمع السعودي نحو الانفتاح وقبول التعددية الثقافية والدينية.
صحيح أن هذه التعديلات تُعتبر الأولى من نوعها التي يجريها العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ توليه عرش المملكة في عام 2005، إلا أن المتابع للشأن السعودي خلال الأعوام الأخيرة، يتلمس أن الملك عبد الله قد أولى عملية الإصلاح أهمية خاصة غير مسبوقة في تاريخ المملكة. ولعل أهم ثلاثة أحداث إصلاحية شهدتها المملكة خلال الفترة الماضية، وقبيل التعديلات الأخيرة، التي عكست عملياً التوجه الإصلاحي للعاهل السعودي هي: انتخابات المجالس البلدية التي وإن كانت «جزئية» إلا أنها بلا شك تعتبر خطوة إيجابية نحو توسيع باب المشاركة السياسية. والأمر الثاني «نظام هيئة البيعة» الذي حدّد آلية انتقال السلطة ضمن إطار رسمي ومؤسسي. أما الأمر الثالث فهو «مشروع الملك عبد الله لتطوير مرفق القضاء» الذي يهدف إلى إدخال إصلاحات وتشريعات جديدة على النظام القضائي وإعادة هيكلته من جديد بعدما مضى عليه نحو ربع قرن!
جدير بالذكر أن هذه الخطوات الإصلاحية التي أقدم عليها العاهل السعودي تخللتها محطات مهمة عكست جانباً آخر من جوانب العملية الإصلاحية التي تشهدها المملكة نحو الانفتاح وقبول التعديدية الفكرية والدينية.
المحطة الأولى تعود إلى سلسلة لقاءات «الحوار الوطني» التي شاركت فيها شرائح المجتمع السعودي وأطيافه كلها بدعوة من العاهل السعودي. المحطة الثانية تعود إلى «مؤتمر الحوار الإسلامي» الذي انعقد في مكة المكرمة تحت رعاية العاهل السعودي بحضور مجموعة كبيرة من الشخصيات العربية والإسلامية وعلماء الدين من كل المذاهب الإسلامية. أما المحطة الثالثة فتعود إلى مؤتمر «حوار الأديان» الذي أطلق العنان لحوار أتباع الديانات السماوية تحت رعاية الملك. بعد هذه المقدمة التي عكست الخطوات الإصلاحية التي قام بها العاهل السعودي، التي وإن كانت تتصف بأنها «بطيئة»، نستطيع القول إن التعديلات الأخيرة التي شهدتها المملكة والتي وإن كانت «مفاجئة» للبعض لكنها تبدو للبعض الآخر «طبيعية» إذا ما أخذنا بالاعتبار طبيعة النظام والمجتمع السعودي والخطوات الإصلاحية التي أقدم عليها الملك منذ توليه العرش والتي مهدت الطريق لهذه التعديلات «الاستثنائية».
هذه التعديلات الأخيرة التي قام بها الملك عبد الله بن عبد العزيز اشتملت على أربعة أعمدة بارزة كانت أساس هذا التغيير (إلى جانب تغيرات أخرى شهدها التعديل الأخير): الأول التعديل الوزاري الذي طال وزارات العدل والتربية والصحة والإعلام. الثاني، زيادة أعضاء مجلس الشورى من 120 عضواً إلى 150 عضواً لضمان تمثيل أوسع لكل شرائح المجتمع السعودي وأطيافه. الثالث، دخول أول امرأة في تاريخ الحكومات السعودية منذ تأسيسها وهي نورة الفايز التي شغلت منصب نائبة وزير التربية والتعليم لشؤون البنات. الرابع، التعديلات التي طالت المؤسسة الدينية بمختلف جوانحها والتي تُعدّ من أبرز التعديلات الأخيرة وأهمها.
طبعاً بالنظر إلى المؤسسة الدينية وتاريخ نشأتها في المملكة وارتباطها الوثيق بالنظام السياسي الحاكم وتغلغلها داخل المجتمع السعودي، نجد أن توصيف التعديلات الأخيرة التي طالت هذه المؤسسة تحديداً بأنها «استثنائية» هو توصيف دقيق إلى حد ما. فالنظام السعودي بات يدرك أن هذه المؤسسة بشكلها السابق باتت تمثّل عبئاً كبيراً عليه وحجر عثرة أمام أي انفتاح سياسي أو ثقافي أو ديني، داخلياً كان أم خارجياً؛ ولذلك فإن التعديلات التي طالتها تعتبر خطوة شجاعة من العاهل السعودي لإعادة تنظيم هذه المؤسسة بما يخدم المسيرة الإصلاحية للملك.
التعديلات «الاستثنائية» التي طالت المؤسسة الدينية اشتملت على هيئة كبار العلماء، مجلس القضاء الأعلى، ديوان المظالم، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحاكم الإدارية. فبالنسبة لمجلس القضاء الأعلى، عيّن العاهل السعودي الرئيس السابق لمجلس الشورى صالح بن حميد رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء، الذي يُعتبَر أعلى سلطة قضائية ودينية في المملكة، بدلاً من الشيخ صالح اللحيدان الذي عُرفت عنه مواقفه وفتاواه المتشددة مثل فتواه الأخيرة بجواز قتل بعض ملاك الفضائيات!
أما على صعيد هيئة كبار العلماء، فقد أصدر العاهل السعودي مرسوماً يقضي بإعادة تكوين هذه الهيئة وزيادة أعضائها لتضم فقهاء المذاهب السنية الأربعة بعدما كانت مقتصرة في السابق على فقهاء المذهب الحنبلي فقط. وقد تحدث بعض المراقبين عن وجود إشارات إيجابية نحو قرب دخول شخصيات شيعية إلى عضوية هيئة كبار العلماء الذي سيعدّ في حال الإقدام عليه، خطوة إصلاحية حقيقية ونقلة نوعية في المسيرة الإصلاحية السعودية.
أما بالنسبة لـ«هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي تمثّل عصب المؤسسة الدينية، فقد أصدر العاهل السعودي قراراً بإقالة رئيس الهيئة الشيخ إبراهيم الغيث المعروف بمواقفه المتشددة وعيّن بدلاً منه الشيخ عبد العزيز الحمين الذي يوصف بأنه شخصية أكثر انفتاحاً. وقد أثارت الطرق العنيفة والفكر المتعصب والممارسات المتشددة التي انتهجها النظام السابق في «الهيئة» سخطاً واسعاً في المجتمع السعودي وصلت إلى حد مطالبة العديد من الكتّاب والمثقفين والشخصيات السعودية البارزة بإلغاء هذه الهيئة بعدما باتت بيئة حاضنة للفكر المتشدد، على حد تعبير أحد الكتّاب السعوديين.لكن الخطاب الذي ألقاه الشيخ عبد العزيز الحمين بعد توليه منصبه في الهيئة، أعاد الأمل من جديد بانتشال هذه الهيئة من الفكر المتشدد عندما ذكر أنه سيسعى جاهداً إلى «الحد من الأخطاء الناجمة عن الهيئة»، وهو إقرار واضح بالممارسات غير المقبولة التي كانت تتبعها الإدارة السابقة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي دلالة إيجابية أخرى، صرح «الحمين» بأنه «لن يأخذ بعد اليوم الناس بسوء الظن والتهمة بل سيكون مبدأ حسن الظن هو الأساس في التعامل مع الآخرين».
لكن هذه التعديلات «الاستثنائية» التي طالت المؤسسة الدينية، وتحديداً هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يبدو أنها لم ترق إلى «الحرس القديم» داخل هذه المؤسسة، وأعني هنا الأحداث المؤلمة التي شهدتها أخيراً المدينة المنورة والتي قامت بها الشرطة الدينية التابعة للهيئة بحق مجموعة من زوار مقبرة البقيع.
هذا الحدث المؤسف الذي، وإن كنا لا نستطيع أن نعزله عن سياق الممارسات المتشددة والمضايقات المتكررة على مدار السنوات السابقة لرجال الهيئة بحق زوار المدينة المنورة، إلا أنها ولطبيعة التصعيد الذي رافقها هذه المرة من رجال الهيئة، فإنها مثّلت جانباً آخر مهماً من حيث توقيتها ومدلولاتها؛ ففي الوقت الذي تخطو فيه السعودية خطواتها نحو الإصلاح والانفتاح وقبول التعددية، نجد أن هناك من يسعى لوضع العصي في دواليب المسيرة الإصلاحية الجديدة التي يقودها العاهل السعودي ضد التشدد.
* كاتب كويتي