علاء اللامي *عاد السياسي العراقي المخضرم عبد الأمير الركابي وعدد من زملائه في قيادة التيار الوطني الديموقراطي العراقي إلى بلده بعد «نفي طوعي» دام قرابة 18 عاماً. وقد التقوا برئيس الوزراء نوري المالكي، وبعدد من قيادات الأحزاب والتيارات المناهضة للاحتلال، من تلك التي لم تنخرط في عمليته السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية. ثم عقدوا مؤتمراً صحافياً في بغداد بمشاركة عدد من تلك القيادات كالأستاذ زيدان النعيمي، الأمين العام للحزب القومي الناصري.
لعله لم يقل بعد كل شيء عن فترة الحوارات التي سبقت سفر الوفد، ولكنني كنت أتابع، شأني شأن إخوة آخرين في التيار الوطني الديموقراطي، حواراته مع مبعوثي المالكي عن كثب وبالتفصيل، وكنا نؤكد ونكرر التأكيد لمحاورينا في كل مرة أننا في التيار الوطني الديموقراطي، كنا وسنبقى أوفياء لثوابتنا الوطنية في:
ــــ مناهضة الاحتلال والعمل على إنهائه سريعاً ومن دون قيد أو شرط.
ــــ تفكيك وإنهاء العملية السياسية التي جاء بها الاحتلال والقائمة على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية.
ــــ التحريض ضد الاتفاقية الأمنية المعقودة معه عبر جميع الوسائل، ودعوة الناخبين خلال الاستفتاء المقبل لنقضها ورفضها جملة وتفصيلاً.
ــــ عقد مؤتمر للقوى المناهضة للاحتلال والطائفية في العراق، بشكل مستقل عن الحكومة تماماً، وبتمويل وتخطيط وإدارة ذاتية من الأطراف المشاركة في المؤتمر المنشود، من دون إقصاء أو تهميش لأي طرف، وخصوصاً لممثلي حزب البعث بشقيه (رغم أن البعثيين ما زالوا يواصلون حملتهم ضدنا منذ بدء الاحتلال، ويواصلون نشر ملفهم ذي الـ23 مقالة للتشهير بـ«عملاء الموساد الصهيوني»! حسب موقع «البصرة نت»). فدفاعنا عن حق هذا الحزب في الوجود والنشاط ورفضنا المبدئي لقانون «اجتثاث البعث» ومشتقاته نابع من فهمنا للديموقراطية الحقيقية، وليس مجاملة انفعالية تنتجها الغريزة البدائية والعقل الاستخبارتي لهذا الطرف أو ذاك. ورفض إقصاء جميع الأطراف العراقية غير الملطخة بدماء العراقيين الأبرياء أو تهميشها، ومنها «هيئة علماء المسلمين»، وإلغاء مذكرة الاعتقال الصادرة بحق أمينها العام الشيخ حارث الضاري، وبحضور ممثلين عن فصائل المقاومة العراقية المؤتمر.
صحيح أن بعض هذه الثوابت، وخاصة ذات الطابع الإجرائي، قوبلت بتحفظ قوي من الطرف المقابل في الحوارات، وبعضها الآخر قوبل بالموافقة الجزئية أو الكلية، ولكن المهم هو أننا كسرنا أي حاجز أو تحريم لمناقشة أي موضوع نريد طرحه.
وبعد المؤتمر الصحافي، طرح عراقيون مناهضون للاحتلال والطائفية ملاحظات نقدية كثيرة، بعضهم قريب إلى هذه الدرجة أو تلك من التيار.
ومن تلك الملاحظات واحدة يلخصها التساؤل الآتي: إذا كنا نتفق أو نتحفظ على صحة هذه المبادرة وضرورتها، بخطوطها العريضة لعقد مؤتمر للقوى المناهضة للاحتلال والطائفية في العراق، فهل كان اللقاء بالمالكي شخصياً ضرورياً وصحيحاً؟
أعتقد أن اللقاء مع المالكي لم يكن هدفاً بحد ذاته، كما لم يكن الهدف منه تقديم الولاء وآيات الطاعة وإعلان التأييد له شخصياً، بل كان ضرورياً لسببين أو لتحقيق غايتين اثنتين على الأقل:
الأول هو مناقشة مجموعة من القضايا الإجرائية المتعلقة بالمؤتمر المناهض للاحتلال والمحاصصة الطائفية في العراق، وسلامة المشاركين فيه وأمنهم، وترتيبات استعادتهم وثائقهم وبياناتهم الشخصية الرسمية، وغير ذلك من متعلقات، بوصف المالكي المسؤول عن الموضوع الأمني والسياسي التنفيذي.
والهدف الثاني هو استكشاف مواقف الرجل السياسية الشخصية، التي بدأت بالافتراق منذ فترة عن المحاصصة الطائفية ومخططات تقسيم العراق باسم الدولة الاتحادية «الفدرالية»، وموقفه من وجود الاحتلال العسكري والسياسي والاقتصادي. ولا أظن أن من قرر الإقدام على هذه الخطوة سيتأخر عن نقدها جذرياً والتخلي عنها تماماً متى ما تأكد ضررها على القضية الوطنية العراقية.
بالعودة إلى الخلفية السياسية، نلاحظ بوضوح أن جملة متغيرات عميقة قد طرأت على المشهد العراقي منذ الانتخابات المحلية الأخيرة. فلم يعد سراً أن الفترة المقبلة، التي ستشهد بدء عمليات انكفاء قوات الاحتلال وانسحابها، ستشهد أيضاً بدايات اضطراب أمني كبير.
وثمة إشارات ومعطيات ملموسة تؤكد أن الأطراف المتشددة في السلطة القائمة، أو تلك التي خارجها، ستحاول استغلال هذا الاضطراب الأمني واستثماره وجعله رافعة دموية لتحقيق أهدافها ومراميها ومصالحها الخاصة، طائفية كانت أو عرقية أو حزبية، لزيادة حجم حصتها من كعكعة السلطة والامتيازات الطائفية والعرقية. ولقد بدأنا نسمع منذ بضعة أيام، تحذيرات متشائمة، ليس آخرها تلك التي أطلقها طارق الهاشمي، أحد أعمدة العملية السياسية الاحتلالية، من أن أمام العراقيين سنة صعبة! كما أن التفجيرات الانتحارية الضخمة عادت لتفتك بالعراقيين، وقد ظل الاحتلال الأجنبي وقواته كالمعتاد في مأمن منها، وكان آخرها المجزرة التي ارتكبها انتحاري بحق عشرات الشباب العراقيين المدنيين المتقدمين للتطوع إلى كلية الشرطة.
كذلك بدأ الصراخ المأزوم يتعالى من رموز التشدد من طائفيين شيعة، يهددون بالدفاع حتى آخر قطرة دم (من دماء المدنيين طبعاً لا من دماء أفراد عائلاتهم المصونة)، عن المغانم السلطوية والاجتماعية والمالية التي حصلوا عليها، فيما يرد عليهم المتشددون من الطائفيين السنة بتهديدات مبرمة مضادة بالقضاء على من يصمونهم بـ«عملاء الاحتلال وذيوله» أو عناصر «الحرس الصفوي» أو «الانفصاليين الأكراد عملاء الصهيونية»، مقامرين هكذا بمصير العراقيين من العرب السنة، ودافعين بهم إلى كارثة جديدة أشد هولاً من تلك التي مرت وخلّفت آلاف القتلى والمهجرين من بغداد خصوصاً. ومعروف أن ثمن هذا الصياح والهياج الدموي للمتطرفين الطائفيين سيسدده الأبرياء من المدنيين العراقيين بغض النظر عن طائفتهم أو قوميتهم.
إن هذه المطحنة البشرية المرعبة التي يحضر ويخطط لها المتطرفون الشيعة والسنة والأكراد، ستفوق بمأساويتها دورة الاحتراب الطائفي التي شهدها العراق وبلغت ذروتها سنتي 2006 و2007، ولا بد من إفشالها وإجهاضها. وتلك هي مسؤولية كل الوطنيين والديموقراطيين العراقيين المناهضين للاحتلال والمحاصصة الطائفية. إن مقاومة العدو المحتل بالسلاح ستبقى مشروعة ما بقيت قوات الاحتلال على أرض العراق. ولكن متى ما اكتمل انسحاب تلك القوات، فإن أي عمل مسلح سيكون قتلاً إجرامياً للعراقيين، كل العراقيين، تنبغي إدانته ومحاكمة القائمين به. أما الفترة الواقعة بين بدء انسحاب قوات الاحتلال واكتمال هذا الانسحاب، فينبغي أن يتوافق بشأنها جميع الأطراف الوطنية العراقية للوصول إلى اتفاق بشأن الصيغ العملية لإفشال محاولات بعض الجهات تأخير انسحاب قوات الاحتلال أو عرقلته.
الإدانات اللفظية والبيانات الصوتية ضد الطائفيين لم تعد كافية. لقد حانت لحظة الانتقال إلى الفعل المباشر على الأرض العراقية، بعيداً عن العملية السياسية الاحتلالية، بل على النقيض منها تماماً، ومن أجل تفكيكها وإنهائها وبناء بديلها العراقي الديموقراطي، وكمعارضة حقيقية وسلمية للسلطة القائمة، ولفسادها، ولتركيبتها الراهنة.
إن ترك العراق والعراقيين للمتطرفين الشيعة والسنة والأكراد، الذين يشحذون الآن سكاكينهم وأسنانهم باسم «الديموقراطية والانتخابات»، أو باسم «المقاومة والاستقلال»، لا يقل إجراماً عن قتل العراقيين برصاص الاحتلال ذاته.
* كاتب عراقي