strong>نوال العليإذا كانت الأمّ هنا، فالعائلة كلّها هناك، شرقاً أو غرباً. ابتسمي للصورة أيّتها العائلة، إنّنا نلتقطها قبل أن يعاد توزيعك على الجغرافيا أو يعاد تعريفك بإرادة سياسية.
الأم هناك، ربما يكون مريد البرغوثي في طريقه إلى العاصمة الأردنيّة، حيث يلقي أشعاره في «دارة الفنون». في عمّان، اتخذت والدته لها منزلاً في حي «الشميساني» الهادئ. لا بد من أنّه سيراقب ثمار الحديقة الضيّقة ليحنّ إلى ثمار «البلاد» الواسعة، ثم يكتب قصيدة عن الصداع أو العمى. أليس هو شاعر الوجع العادي والمنافي اليومية؟
منذ السبعينيات، أصدر 12 ديواناً، آخرها كان عمله الشعريّ «منتصف الليل» وأحد أشهرها «منطق الكائنات». لكنّ عمله الذي شغل النّاس هو قطعة من النثر الخالص. كان كتابه «رأيت رام الله» يحكي عن الطريق إلى الوطن. طريق لم تكن بأجمل من الوطن أبداً.
ننظر إلى الرجل الذي صار عليه في البعد، وقد تنقّل بين أكثر من 35 بيتاً وعاش في سبعة بلدان. أمّا فلسطين، المكان الأمّ، فلم يرها إلا بعد 30 عاماً من النكسة. لكنّه لا يسمّي زيارته تلك عودةً، قال «رأيت رام الله» لا عدتُ، ولا سكنتُ، ولا زرتُ. لقد وقع على المدينة بفعل المشاهدة، كأنّها ليست المكان، بل صورته.
في رام الله، عمل مريد مديراً لبرنامج مموّل من صندوق النقد الدولي لإنجاز قاعدة معلومات للمواقع الثقافيّة والأثريّة. وإن كان قد سُئل القبول بالعمل العام لأنّه صاحب السجل النظيف، فقد استقال للسبب نفسه.
ورام الله تعني أنّه قضى أمراً، من كان ليصدق أن القدر سيقضي بأن يريك إياها ثانية! وأنّك ستعبر جسر اللّنبي من الأردن، ستجتاز العسكر بحقيبة كتف صغيرة، ستدخل عمارة «اللفتاوي»، حيث كنت تقطن طفلاًً، ستزور عشيرة البراغثة في «دير غسّانة» وسترى المطارح التي لم ترم رؤيتها مرةً أخرى.
في حزيران (يونيو) 1967، كان البرغوثي يحقّق حلم والدته وشقيقه الأكبر منيف، بأن يكون أوّل الجامعيين في العائلة. وما إن نفدت الأيام الستة وانتهت الحرب، حتى وجد طالب الأدب الإنكليزي في جامعة القاهرة نفسه ممنوعاً من العودة إلى فلسطين مثل كثيرين. إنّها بداية الشتات الذي جعلت منه الدولة العبريّة وسيلةً ناجحةً لتفتيت الهوية الفلسطينية ومن ثمّ «إعادة تعريفها». ولا أدلّ على ذلك ما حدث أخيراً بين الضفة وغزّة، «الحكومة الوطنية كانت ترتكب حماقة بأن تعاملت على أن الشعب الفلسطيني هو الحصّة التي في الضفة وغزة فقط». صار لدينا شعوبٌ فلسطينية: بعضهم في المخيمات، وآخرون في الشتات، وعرب مناطق الـ48، وفي غزة والضفة فلسطينيون آخرون «هذه بداية كارثة يخبئها لنا المستقبل».
كل هذا الماضي، كان مستقبل شاعر «قصائد الرصيف» في يوم من الأيام. وهو وإن كان يعيش الآن في القاهرة مع زوجته الروائية والناقدة رضوى عاشور وابنه الشاعر تميم، إلا أنّه أُخرج من أرض الكنانة يوماً مكبّلاً مطروداً بينما كان الرئيس المصري أنور السادات يلقي خطاباً في الكنيست الإسرائيلي عام 1977. وعلى رغم أنّه لم يقم بأي فعل لمعارضة هذه الزيارة أو الاحتجاج عليها، كان ترحيله من القاهرة وقائياً، ولم يعد إلا وقد مرّ 18 عاماً. من مصر توجّه إلى بيروت وشهد أحداث الاجتياح فيها، ثمّ خرج إلى بودابيست، وأقام فيها 13 سنة ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد العالمي للشباب الديموقراطي World Federation for Democratic Youth. بينما بقيت رضوى وتميم في القاهرة كي يتلقى الصغير تعليماً عربياً «لم نكن نريد له أن يكون مجزياً، ولكن هذه الفرقة حرمتني من إنجاب عشرة أولاد». لم يكن حال مريد في عمّان بأفضل من القاهرة، فقد أبعد منها عشرين عاماً، وولّت الأيام التي كان الوالدان والأبناء الأربعة يلتقون فيها في فندق «كرفان» الصغير. وقد استحالت ثلاث غرف متجاورة في هذا النزل الحميم إلى بيت العيلة. وظلت الحال كذلك حتى انتقلت الأم سكينة تماماً إلى عمّان سنة 1970 لتسهّل لأبنائها أن يلتئم شملهم أيضاً.
لسوء الحظ، كان توقيت سكينة سيئاً، اشتعلت أحداث أيلول الأسود في السنة نفسها، وتحطمت العلاقة الفلسطينية الأردنية. ولمّا كان مريد يعمل مذيعاً متطوعاً للأخبار في «راديو فلسطين»، ثم ملحقاً ثقافياً لدى منظمة التحرير الفلسطينية، لم يتمكّن من دخول الأردن وتجديد جواز سفره حتى رفع الأحكام العرفية سنة 1989، مع أنّه حافظ على استقلاله السياسي ولم ينتسب إلى منظمة أو حركة طيلة حياته.
يبدو أنّ لا فرق، فسواء أكنت منتسباً لمنظمة أم لم تكن، وسواء أقمت بأي فعل معارضة للنظام أم لم تقم، كان يكفي في تلك الأيام العصيبة أن تكون فلسطينياً، لتكون مثيراً للشكوك ومدعاةً للحذر. ما أقدم عليه السادات عام 1978 كان بمثابة كسر لسياق التاريخ العربي المعاصر، «كما يكسر إصبع الطبشور فلا يمكن إلصاقه مرة أخرى». خرجت مصر بتوقيعها اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل من الصراع. ومن يرد المقاومة الآن، فليفعل ذلك وحده. في الاجتياح، كان لبنان وحده. في سقوط العراق كان العراق وحده، في حصار ياسر عرفات في رام الله، كانت رام الله وحدها. في عدوان تموز، كان الجنوب اللبناني وحده، وفي مجزرة غزة، كانت غزة وحدها.
من السياسة وإليها، هذا هو مزاج مريد البرغوثي في الحديث. إنّه كأمواج تقترب، ترتطم بالشاطئ ثم تعاود الابتعاد. كلما لفتنا نظره إلى نفسه، هدأ قليلاً، لكن الريح سرعان ما تحركه فيثور: «أريد أن أتحدث في السياسة فقط، فأنا لست شخصاً مهماً، إنني الطرف الخاسر دائماً».
يتجنّب الطرف الخاسر الحديث عن نفسه، يخشى تلوّث اللغة، المرض العضال الذي أصاب السياسيين والمثقفين «الصغار»، وكشفت عنه أحداث القطاع في كانون الثاني (يناير) الماضي. «من المتعذر علينا طرح أي فكرة بشأن الحياة السياسية الفلسطينية إلا ويعمل هؤلاء على تصغيرها، كاختصار ما حدث في غزة إلى خلاف فتح ـــــ حماس». أو كأن تستخدم تعبيرات اعتباطية مثل: إن ما حدث دائرة مفرغة من العنف، «كأنّه عنف ملوش صاحب».
أمّا لغة مريد فنقيّة، تطيعه مثلما تطيع كلّ البراغثة. إنّهم يتمتّعون بالقدرة على السخرية والنقد على نحو يثير الضحك أحياناً. ها هي سمات الأرض التي أتى منها تظهر جليّة في كتابته. رغم سنوات الغربة القسريّة التي أبعدت صاحب «فلسطيني في الشمس» عن الوسط الأدبي العربي طويلاً. حتى أنّ حضوره الفعليّ لم يتحقق له بقدر ما حدث بعد كتاب «رأيت رام الله»، فنال عنه «جائزة نجيب محفوظ للآداب»، وصدر حتى الآن في 6 طبعات عربية وترجم إلى 10 لغات.
بين عمّان والقاهرة، يتنقل مريد، مع عائلة مكونة من روائية وشاعرين، تحتدم المعارك حول الكتابة. أما الجغرافيا فهي المهمة المستحيلة. وفي الليل والكل نيام، يسأل الشاعر نفسه: «هل الوطن هو الدواء حقّاً لكل الأحزان؟ وهل المقيمون فيه أقل حزناً؟».


5 تواريخ

1944
الولادة في قرية دير غسانة بالقرب من رام الله (فلسطين)

1972
صدور ديوانه الأول «الطوفان وإعادة التكوين» عن «دار العودة» ـــــ بيروت

1996
زيارته لرام الله بعد ثلاثين عاماً من المنفى، وسجّل التجربة في كتاب صدر العام التالي تحت عنوان «رأيت رام الله» (المركز الثقافي العربي)

2000
حصل على جائزة فلسطين في الشعر

2009
يصدر الجزء الثاني من كتابه «رأيت رام الله»