في الثلاثين من آذار من كل عام يحتفل الفلسطينيون بذكرى يوم الأرض الذي اندلعت فيه المواجهات بين فلسطينيي الداخل والإسرائيليين الذين أرادوا مصادرة أراضيهم. بالمناسبة تستنطق «الأخبار» ذاكرة من عاشوا ذلك اليوم وتقتفي أثر المناسبة عند الجيل الرابع من اللاجئين
عرابة الجليل ـــ فراس خطيب
كبرت قرية عرابة الجليلية. توسعت وتجاوز سكّانها العشرين ألفاً، لكنّ ذاكرة ساعي البريد كبرت معها، فهو لا يزال يحمل الرسائل إلى البيوت حسب الاسم لا العنوان، لأن معظم الشوارع لا تحمل أسماء البيوت ولا أرقامها. اسم العائلة هو شارعها ورقم بيتها. والساعي يعرف كل العائلات، ويعرف كيف توضع الرسالة. لكن القرية التي احتفلت بتوسيع شارعها الرئيسي أوائل التسعينيات من القرن الماضي، قمَّشت احتفاليتها بإطلاق اسم على الشارع هو اسم «شارع خير ياسين»، شهيد يوم الأرض الأول، الذي استشهد على مقربة من اسمه في مثل هذا اليوم من عام 1976.
كانت البداية مخططاً لها، وقرّرت حكومة إسحق رابين مصادرة 21 ألف دونم من المنطقة الرقم 9، المعروفة حتى هذه اللحظة باسم «أرض المل». ذهب الناس كعادتهم إلى الأرض ليجدوها منطقة عسكرية مغلقة، وتسلموا أوامر المصادرة. ساد الغليان الشارع وأعلنت لجنة الدفاع عن الأراضي أنّ الثلاثين من آذار سيكون إضراباً عاماً. لم يبق تهديد إلا واستعملته حكومة إسحق رابين لإفشال الخطوة. يذكر عضو لجنة الدفاع عن الأراضي محمد ميعاري تلك اللحظات بقوله: «حاولت السلطة منع الإضراب بتحريض رؤساء المجالس المحلية على رفضه. لكن الجماهير العربية هاجمت الاجتماع الذي عقده المستشار الحكومي آنذاك في شفاعمرو. ونجح الإضراب». ويقول رجل من قرية دير حنّا: «كنّا شباباً وقفنا إلى جانب القاعة، وكنا نريد إضراباً بكل ثمن، ولن نقبل بأقل من الإضراب العام».
عندما فشلت حكومة رابين بسعيها، حاصر الجيش الإسرائيلي القرى العربية. ويذكر أبو يوسف بداية العاصفة: فمساء 29 آذار «دخل الجيش إلى قريتنا (عرابة) معتقداً أنه سيلقن العرب درساً. المصفحات اجتاحت القرية واستفزت الناس وفرضت منع التجوّل، وتفجرّت الأوضاع المتوترة، فالناس كانوا غاضبين».
يذكر أبو وهبة أحد سكان القرية أنه حين اقتحم الجيش الشارع الرئيسي للبلدة «وقعت مواجهات عنيفة، وهناك سقط خير ياسين على الشارع الرئيسي ومنع الجيش الإسرائيلي إحدى السيارات من نقله إلى المستشفى».
استمرت المواجهات في الليل، فاقتحمت قوات أخرى من الجيش قرى سخنين ودير حنا. ويذكر أبو وهبة أنه في ساعات الليل المتأخرة «استطاع شبّان قرية عرابة خطف 3 عناصر من الجيش الإسرائيلي، وفتحوا مفاوضات يُطلق بموجبها سراح معتقلي القرية مقابل إطلاقهم. وهذا ما حدث في الصباح. في تلك الأثناء اشتدّت المواجهات في قرية سخنين، حيث كانت يد الجيش أعنف واستشهد 3 من أبنائها وجرح الكثيرون. وعندما وصل خبر المواجهات في سخنين، اشتعلت عرابة مرة أخرى بعد سماعنا عن سقوط الشهداء». ويلخص أحد سكان قرية دير حنا ممن كانوا في الحزب الشيوعي أنه «كان احتجاجاً وتصميماً. هناك من فقد ساقه وجرح وواصل لكنه عزّى نفسه بأنّ أرضه لم تصادر. ولكن سأقول لك أيضاً إن الناس، رغم الصعوبات، كان في عيونها أمل، وخاصة بعد عبور القناة (1973) الذي عوض قليلاً على النكسة».
السنوات بعد يوم الأرض، التي احتفل بها بالذكرى، شهدت مواجهات أيضاً. كان الجيش الإسرائيلي يقمع المسيرات الاحتجاجية التي صارت ركناً من أركان الشارع. فمنذ 32 عاماً لا يزال التقليد واحداً: أكاليل زهور ونزول إلى الشارع».
لا تزال أرض المل قائمة، لكن البلدات المحيطة بها باتت محاصرة تتوسع إلى قلبها لا إلى خارجها. فلا حاجة لأن تكون مهندساً معمارياً لتكتشف مرارة الواقع، فالقرى محاطة بمستوطنات تتربع على سفوح الجبال لتمنع توسعها حتى صارت المساحة الفاصلة بينها تقترب من الصفر.
السنوات مرّت لكنّ حال فلسطينيي الـ48 لا تزال هي ذاتها، تراكم قضاياها من عام إلى آخر. فلا يزال شارع خير ياسين هو الرئيسي في قرية عرابة، لكنّ ياسين لم يعد شهيداً وحده، فإلى جانبه اليوم نصب تذكاري لشهيدي القرية في هبة تشرين الأول 2000. ومن يريد الوصول إلى النصب التذكاري لشهداء يوم الأرض في سخنين، التي صارت مدينة اليوم، فعليه أن يمر من طريق دوار جديد، اسمه أيضاً دوار الشهداء. فحتى لو ضاعات الحكاية ولفّتها السنوات، فإن حجارة الطريق ستظل تروي لك القصة!


أكاليل زهور للمثلث

اشتعل يوم الأرض الأول في قرى عرابة وسخنين ودير حنا، وانتفضت بعدها كل القرى الفلسطينية. 6 شهداء من عرابة وسخنين وكفر كا ونور شمس هم خير ياسين، رجا أبو ريا، رأفت الزهيري، خديجة شواهنه، خضر خلايله، ومحسن طه ومئات الجرحى والمعتقلين. وبعد العاصفة صار اسم القرى الثلاث «مثلث يوم الأرض». تجاوز ذلك اليوم معنى الدفاع عن الأرض، وارتقت الذاكرة لتصبح هي أرض الفلسطينيين التي لا تصادر، تعززها كل عام مأساة جديدة، لكنّها تورث من جيل لآخر. فمن لم يعاصر الحدث، فسيسأل حتماً «على قبور من تضعون أكاليل الزهور صبيحة الثلاثين من آذار في كل عام؟».