جعفر فضل الله*1ـــــ ما هو عنوان القضيّة؟ اليوم يعبّر عنها بـ«القضيّة الفلسطينيّة»، وأعتقد أنّه يمثّل المنزلق الأوّل؛ لأنّ أصل المسألة هو احتلال فلسطين التي لا يزال لها صورة في الذهنيّة العامّة للأمّة، ولا سيّما أنّ جيلاً كان يتعامل مع المفردة الأصل لا يزال حيّاً يعكس الذاكرة التاريخيّة للأمّة. التعبير الدقيق لعنوان الصراع هو «احتلال فلسطين»؛ لأنّ اعتبار عنوان الصراع هو القضيّة الفلسطينيّة سيفضي بنا إلى مصاديق كثيرة؛ لأنّ القضيّة قد تتحجّم لتغدو صراعاً على أراضٍ محتلّة، كما وقع ذلك في صيغ بعض قرارات الأمم المتحدة السابقة، وقد يُصبح قضيّة لاجئين، أو قضيّة توطين؛ وقد تتحوّل القضيّة نفسها إلى قضايا تتبع حالة التشرذم التي مُنيت بها الأمّة؛ لأنّ للبنان قضيّة فلسطينية، ولسوريا قضية فلسطينية، وللأردن قضية فلسطين، ولمصر كذلك، وهلمّ جرّاً، وكلّ بلدٍ من هذا البلدان، وغيرها، يعاني من تبعات القضيّة الأمّ والأصل، في تجليّات تكتسب خصوصيّةً مع كلّ خصوصيّات كلّ بلدٍ وقطر.
قد يُقال بأنّ النزاع يُمكن أن ينسحب على الاصطلاح الذي ننشده، وهو «احتلال فلسطين»؛ لأنّ فلسطين بما هي جغرافيا قد تتحجّم، واليوم يعبّر عن فلسطين بما يشمل مساحة جغرافيّة محدّدة من فلسطين، وهي قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، وعندئذٍ فالعبرة بما نقصده من المصطلح، ولا مشكلة في ألفاظه.
وهنا نعود إلى صلب المشكلة؛ لأنّنا نتحدّث عن مستوى من استخدامات الألفاظ ينزلق بنا إلى منزلقات تنعكس على طبيعة مفردات الصراع الواقعيّة، وليس مجرّد مسألة لفظيّة. على أنّنا أشرنا إلى أنّ التعبير عن القضيّة بـ«احتلال فلسطين» يُرجعنا إلى الصورة التي لا تزال محفوظة للجغرافيا والتاريخ، واستخدام هذا المصطلح سيعيد إنتاج تلك الذاكرة، ويضبط بالتالي بوصلة تعاملنا مع مفردات الصراع.
2ـــــ حقّ العودة. بات هذا المصطلح هو الاستخدام الشائع حتّى في أدبيّاتنا كعرب ومسلمين معنيّين بقضيّة «احتلال فلسطين»، ووجدنا أنفسنا، عند لحظة تاريخيّة، نبذل الجهد لإثبات حقّ العودة، وهذا جهدٌ سيختلف نوعيّاً وحركيّاً عن الجهد الذي يُبذل فيما لو كنّا نستخدم مصطلح «العودة»؛ فالأوّل يفترض العمل لإقناع الأطراف المؤثّرة على وجود حقّ في العودة للفلسطينيين الذين هُجّروا قسراً من وطنهم؛ بل يختزن شكّاً مسبقاً في وجود هذا الحقّ موضوعيّاً؛ بينما المصطلح الثاني يدفعنا للبحث في آليّات الترجمة العملانيّة، فالعودة تفترض خطّة ووقتاً وآليّات؛ وهنا سنجد أنفسنا منخرطين تلقائيّاً في رسم أهداف تقرّب مسافة العودة، ولا سيّما أنّنا نعيش في عالم يبقى ما في فكره ثابتاً لا يتزحزح؛ لأنّ تموّجات التفكير لديه تسبح في فضاء آخر، غير فضاء كلماتنا وما يجري علينا من مصائب وويلات ومحن.
3ـــــ «اللاجئون الفلسطينيّون». ليست المشكلة قضيّة «لاجئين»؛ لأنّ هذا التوصيف سيجعل المشكلة مشكلة البلد الذي لجأ إليه هؤلاء؛ ولكنّ المشكلة هي مشكلة «مهجّرين» قسراً من أرضهم، وهذا التوصيف، أو ما شاكله، سيقرن في أذهاننا بين صورة المهجّرين عن أرضهم وصورة وطنهم، وليس بين صورتهم وصورة البلد الذي لجأوا إليه؛ وهنا ستحضر فلسطين في ذاكرة الأمّة في تعبيرها عن الشعب الذي لا بدّ أن يعود إلى أرضه.
4ـــــ «إسرائيل». هذا الوصف بات معتمداً، ومن الواضح أنّه يتعامل مع المسمّى للدولة المغتصبة لفلسطين. لن نناقش ذلك؛ لأنّنا ينبغي أن نكفّ عن استخدام هذه التسمية. ولكنّنا سنتوقّف عند التعبيرات التي تصف ذلك الكيان بتعابير تروم عدم الاعتراف به، كالكيان الصهيوني، والعدوّ الإسرائيلي، وكيان العدوّ وما إلى ذلك.
لكنّني أحسبُ، وهذه نقطة برسم التأمّل العام، أنّ من أهمّ الأوصاف التي ينبغي التأكيد عليها إلى جانب كلّ تلك التعبيرات، هو وصف «الغاصب». وتكمن أهمّية إدراج هذا الوصف ضمن أدبيّاتنا السياسية واليوميّة بعامّة، في أمرين:
الأول: ربطه بأدبيّات إسلاميّة ثابتة، هذا الثبات المرتكز على قواعد الإيمان والحُكم الشرعي، وهذا يُكسبه نوعاً من الثبات في الوجدان الإسلامي العامّ.
الثاني: استبدال صفة (الغاصب) بصفة (اليهوديّ) يجعل كثيراً من المتشدّقين يحدّثونك عن حوار الأديان، وكأنّ المشكلة مشكلة دينيّة! وأنّ استبداله بصفة (الإسرائيليّ) يجعل آخرين يوحون إليك بأنّ المسألة مسألة اعتراف بوجود، وبالتالي فالمسألة سياسيّة. وأنّ استبداله بتعبير (العدوّ الصهيوني) يجعل الكثيرين يعظونك بأن شعار الإسلام هو تحويل الأعداء إلى أصدقاء، وبالتالي، فإنّ من الممكن أن يتحوّل العدوّ إلى صديق يوماً ما.
5 ـــــ النقطة السابقة تفضينا إلى التوقّف عند تعبير «الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي»، الذي أمّن سلسلة من التنازلات حتّى أصبح «النزاع العربي ـــــ الإسرائيلي»، فتحوّل، أخيراً، إلى «الصراع، أو النزاع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي»، فتحجّمت قضيّة الصراع من أجل تحرير فلسطين من قضيّة أمّة إلى قضيّة «ناس» فلسطينيّين يريدون شيئاً قد يحصلون على بعضه، وقد لا يحصلون. وربّما يكون اللعب على المصطلحات بدأ من مؤتمر مدريد عندما رُفض وجود العرب مجتمعين، فلم يعد العرب معنيّين بـ«الصراع». في كلّ الأحوال، ليست القضيّة قضيّة صراع بين كيانين على أمور قد تتّسع وقد تضيق، وقد تأخذ أشكالاً مختلفة، بل هي قضيّة «احتلال فلسطين» واغتصابها، والعرب والمسلمون (لماذا يُستبعد البُعد الإسلامي هنا؟) معنيّون بالعمل لتحريرها، ولمساعدة الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل من أجل استكمال عناصر القوّة التي تجعله رأس حربة في حرب التحرير ومن وارئه الأمّة كلّها.
6ــــ شكل الخريطة الحاليّة. في اعتراف لا واعٍ بنتائج المفاوضات بين جزء من القوى السياسية الفلسطينية وبين الكيان الغاصب أصبح شكل الخريطة، حتّى في الوسائل الإعلاميّة، وغيرها، التي لا تعترف بشرعيّة هذا الكيان، بل حتّى في الفضائيّات التي تندرج ضمن قوى المقاومة، أصبحت خريطة فلسطين عبارة عن تقسيم واضح لأراضٍ تُسمّى «الضفّة الغربيّة» و«قطاع غزّة»، وأراضٍ بلا تسمية، وهذا أضعف الإيمان؛ والسؤال: ألا يعني هذا إشارةً إلى محطّة من تاريخ الاحتلال، وهي عام 1967، وكأنّ هذه اللحظة التاريخية باتت تمثّل الخلفيّة اللاواعية وراء حركة الصراع لاستعادة الحقّ السليب. أعتقد أنّه يجدر بنا ابتداع فكرة تجعلنا واقعيّين في التعبير عن مساحة جغرافيّة تدور فيها الأحداث اليوم، لا تسمح، في الوقت نفسه، بتكوين صورة جديدة لجغرافيا فلسطين التاريخية، مقسّمة كما بات يتحرّك بها الإعلام العربي، والنظام الرسمي، كمسلّمة تاريخية تتحرّك المفاوضات لنقلها من الفكرة، أو من الوعد، إلى التطبيق، يوماً ما، بوسيلة ما، بصحوة ضمير ما للمغتصبين والمحتلّين والمستكبرين!
على الأقلّ، يُمكننا أن نقسّم فلسطين التاريخية إلى قطاعات، إذا ما أردنا الإشارة إلى جغرافيا قطاع غزّة. على أنّ السؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه: لماذا لا نحاول التعبير عن جغرافيا الأحداث بأسماء المدن والقرى؛ أليست الأحداث تدور فيها وحولها، كما نعبّر عن أيّ جغرافيا لأيّ بلد تدور فيه أحداث تحتاج إلى التوقّف عندها والتعليق عليها.
هذه بعض التأمّلات التي أعتقد أنّه ينبغي التوقّف عندها مليّاً؛ لتدفعنا إلى إعادة النظر في تعبيراتنا عن القضايا التي ليست مجرّد تعبيرات لفظيّة، بل هي تعبيرات مفاهيمية لها مصاديق واقعيّة، ومن ثمّ إلى إعادة إنتاج مصطلحاتنا الأصل والأمّ؛ لتكون وسيلة تربويّة من وسائل المحافظة على ثقافة الأمّة في وعي قضاياها الأساسيّة، ولتمثّل بوصلةً في رسم الأهداف وتحريك الخطى نحو ما يحقّقها على وجهها الحقيقي الذي بدأت منه وتأسّست عليه.
* كاتب لبناني