نبال الأميونيجَبَلَ منصور الرحبانيّ قلمه من تراب لبنان ورحل. يا ابن الشرق القديم، المتلمّس عذوبة الحزن. أهربُ من وجه أمّتي وهي تذبحك أمام هياكل الأصنام. أنكرتك عند صياح الديك. يا من خيّلت في ميدان الكلمة كفارس برّأ شعبه من الساقطين!
نشتاقك. نندبك كما نندب زويْس وأفروديت، فلا تنم نوم الأموات الهاربين من ضجيج العمر. هل يوضّب لبنان حقائبه ويرحل بعيداً عن بيوت العنكبوت؟ ما بال هذا الصباح يولد بغيرك؟ ما بال الشوارع تعدّ نحل الورق الأصفر؟
سترجع يوماً. سترجع ترمّم عمر الأبواب والشبابيك والمفارق والمقاهي وتجدّل الشعر الأشقر مع نواطير الثلج. ضيّفْتنا لبنان الحلم وعبَرت الجسر. لماذا تغيّرت في لحظة وفي برهة الضوء؟
رحلْت، وبرحيلك اختنق اللحن بدمعة الوتر الذي امتدّ على أفق الصدى. نزف الفجر وتوقّف زمن الإيقاع وتكسّرت سفن أوجاعي رقصة عطرٍ في نبض البيلسان.
يا أيّها العابر، هل تركت لنا صباح أصابعك وعكّازك وفانوسك المتّكئ؟ نحن نخاف القبور المظلمة. احذر رائحة النوم العميق والأرض التي تشرب آخر الزغاريد من فم النبع.
برحيلك تساقطت وجوهنا سراباً يملأ الروح، وتجَمهر الموج حول سلال النوافذ المغلقة، وخلعَت الكرمةُ رحلة المطر. ماذا من بعدك يا رحبانيّ؟ هل تنتهي الدروب والتّلال والقمر؟
يتجمهر السواد من حولي في خيمة العتمات وضجيج الغبار... تجول في خاطري تربة الريح وجسد الوحشة وحطام النجوم. دعْ حصانك للجداول كي يرتوي جرح العارفين على شرفة الأزل!
شهيد أنت! اغتيل نوم العابر نحو القيامة... طيّبٌ أنت. كأنّ أصابع كفّك مرافئ للريح، تعلّق فوق عتبتها انكسار الوطن أيقونةً رحبانيّة.
انهض يا نائماً مع تصاعد البخور في الهياكل. لا وطن لنا الآن، ولا نسمة تجيء لنا من جبل الغربة. أرصفتنا مشرّعة للرحيل. ليس لدينا من بعدك سوى ذاكرة مخرومة الأطراف، تتربّع فيها أحلامك، وتلاعبنا عند ضفّة العشق المجبول بحوريّات ترابك الجميل.
بالله عليك، لا ترتكب سفراً جديداً ترحل فيه عن خيوط أحلامنا الطالعة من خدود الغياب. تجرّنا عربات الحنين نحوك وأنت تحرس الزهر الواعي حول القبر. صمتك مذبحة سوسنة القلق الأخير ولهيب ذاكرة النار. زرعت أهداب القمر وسنابل الأفق على الجدران الموشّحة بخيوط صوت الرّماد. ما أضيق العيش بدونك. إنّا نحب غيمك الهارب من جليد الكلام. ينشف الحبر عند حطام شرفة الدقائق وينهمر الزمان بطاقة تعزيةً.
غفوتَ في بال العتمة على راحتَيْ صدى الحكايا. بالله عليك، مدّ أصابعك ولامس الدفء ببرْد خرافة الليل الطويل. يا من غسلت زهر اللوز البرّي في نيسان الذكريات.
بالله عليك، حاصر الشتاء الطويل وألّفه باب الشمس، المفاتيح في المدى...
يا ليت سنديانة ضيعتك تفتح غابة الثلج، فنرسم على جبينك الموعد الآخر ونمسح غبار العزلة عنّا.
لم ترحل منفرداً في سفينة الضباب. ما أضيق البحر بالمسافرين من شاطئك، وأمامك طوفان الأيّام مسرحاً يخيّط عُرى أيّامنا الآتية، فنستريح مع الصباح المكلّل بنغم البداية.
أنت باقٍ لأنّك رحبانيّ. أراك عابراً بين حُبيبات المطر، تعشش في رحيق طوباويّ النغمات. ليكن ذكرك أبداً... مجدنا أننا تفيّأنا بظلّك وعاصي وفيروز على الدروب.