نهلة الشهاللعله يجب البدء بالسؤال بطريقة مختلفة: حكومة وحدة وطنية حول ماذا؟ وهكذا بعد ذلك، يمكن تحديد هوية المطالبين بها، وأيضاً مقدار الجدية في سعيهم إليها. لا يُمكن أحداً المجادلة في الضرورة المبدئية والملحّة للوحدة الوطنية الفلسطينية، أي لبرنامج وإطار متوافق عليهما في ما يكوّن أرضية الإجماع الفلسطيني اليوم، ولو بحدوده الدنيا. والتوصل إلى ذلك ليس مستحيلاً، لكنه بالمقابل ليس بديهياً. فالتوافق الفلسطيني المولِّد لمنظمة التحرير الفلسطينية تأسّس في زمن مختلف، كانت تحكمه توازنات عامة دولية وعربية اختفت، وحلت محلها معطيات جديدة، صار تكرارها مملاً... فلن أفعل!
ولعله ليس من نافل القول الإشارة إلى أن التوافق الفلسطيني الثاني ــ أي تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية ــ الذي أزاح منظمة التحرير إلى موقع ثانوي، كان وليد تحقق معطى سياسي جوهري، اختفى هو الآخر. وهذا الأخير لم يُذكر كفاية، لذا سأذكّر به: إنه انطلاق ما سُمِّي العملية السلمية، أي التوقيع على اتفاقية أوسلو، والآمال العريضة التي أثارتها بإمكان الوصول إلى تسوية سياسية ذات حد أدنى مقبول من الفلسطينيين، تنشأ عنها دولة فلسطينية تجسّد تاريخياً الوجود الذي طالما أُنكر إسرائيلياً. لكنّ أسس هذا التوافق الثاني سرعان ما زُلزلت، وذلك قبل العدوان الأخير على غزة بوقت كبير. وهي بدأت في التشقق منذ ولادتها، مع التعديلات المتكررة على الاتفاقيات وتأجيل أجزاء منها، ثم إلغاء أخرى.
بعد ذلك وصل شارون إلى السلطة في إسرائيل، وهو من رفض دائماً أوسلو، وصرّح بجملته الشهيرة: «جئتُ أنجز 1948!». احتضرت العملية السلمية طويلاً، ثم ماتت من دون أن ترتضي القيادة الفلسطينية الإقرار بالوفاة السريرية، ودون أن تبادر إلى دفن الجثة المتعفنة. بل كانت، كلما ازداد اتضاح مصيرها ذاك، تتمسك هي بها كالقابض على الهواء. حوصر ياسر عرفات، واغتيل، وأعيد بين اللحظتين احتلال الضفة الغربية بالكامل، وحدث الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة التي شدد الحصار عليها، وجرت انتخابات المجلس التشريعي وفازت فيها حماس بالأغلبية... كل ذلك بدون أن تشعر القيادة الفلسطينية الممسكة بزمام السلطة بحاجة إلى إعادة النظر بالشعارات والعناوين المفوتة تماماً.
واليوم يوشك الجدار على الانتهاء، ويتضاعف بلا توقف عدد الحواجز والطرق الالتفافية، وتتوسع المستوطنات في الضفة رأسياً وأفقياً (انظر تقرير منظمة «بتسلم» الإسرائيلية لحقوق الإنسان لعام 2008 بهذا الصدد، وهو يسجل وقائع يفترض أن تكون مرعبة)، ويكاد يكون تهويد القدس قد أنجز. فما هو برنامج حكومة الوحدة الوطنية التي يُزعم أن مجزرة غزة تفرضها؟
أم أن التوافقات الوطنية أخلاق حميدة، وعواطف، وعيب وإلخ؟
لا يمكن تأسيس حكومة وحدة وطنية فلسطينية لمجرد «رأب الصدع بين الإخوة»، لأنه لا يُرأب هكذا، بل ــ وهذا بديهي أكثر من فكرة الوحدة الوطنية نفسها ــ بتوفير تفاهم على الأسس السياسية. ثم لا يمكن ربط تأليف حكومة وحدة وطنية بالحاجة إلى تيسير إجراءات عملية متعلقة بإعادة إعمار غزة وبالتعامل مع الجرحى والتعويضات. في مثل هذه الحالة، المطلوب هو حكومة تكنوقراطية تتألف من شخصيات فلسطينية نزيهة ومستقلة، يتركها تعمل الرئيسان محمود عباس وإسماعيل هنية اللذان يفترض بهما تقديم استقالتهما لها. ويكون من المعقول إمهالها دون خطاب سياسي محدد ما دامت مهمتها عملية، كما انتقالية.
أما أن يكون البرنامج الفعلي الذي يُبحث في الاجتماعات الدولية والعربية المنعقدة حول «ما بعد غزة»، التي تشارك فيها السلطة، هو كيفية إحكام إغلاق الأنفاق وتشديد الحصار على غزة، وتوفير مشاركة دولية ــ عربية لضمان «أمن إسرائيل»، يتولى تنسيقها حلف الناتو كما بات يقال بصورة شبه علنية، ليكون الإطار الفاعل في التقاطع الأورو ـــــ أميركي الجديد بعد مغادرة الولايات المتحدة للتفرد الهجومي في إعادة صوغ الشرق الأوسط... أن يكون ذلك هو البرنامج المناقش حالياً في تلك المحافل، والمحرك للنشاطات، وألا يكون مقابله إلا الفراغ العدم معروضاً على الفلسطينيين، أو التأكيدات الطيبة لـ«الحاجة إلى دولة فلسطينية» (بينما لم يعد يبقى من مقوماتها شيء)، فاسمه ليس الشروع ببناء مستلزمات التوافق الوطني والحكومة المنبثقة منه، بل استخدام عنوان جوهري في غير محله، وبالضد من مضمونه. فهل حقاً ترغب النخبة الممسكة بالسلطة اليوم في رام الله بحكومة وحدة، أم هي مماحكة، فيما تسير الأمور الفعلية في اتجاه... إنجاز 1948!