سليم الحصأظهرت أحداث غزة الفاجعة وصمودها المشرّف، أنّ الشعب العربي ما زال على العهد، واعِياً القضايا القومية، متحسّساً آلام الأمّة، مستعداً لبذل الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على مصالحها وسلامة المصير. وقد طرحت هذه الظاهرة تساؤلاً مشروعاً: علامَ إذاً كانت تلك الهدأة المثيرة للقلق عبر سنوات من الزمن؟
نحن نرى أن الجواب يكمن في ظاهرتين: الأولى أن الشعوب العربية في معظمها مقموعة. إنها تخضع في معظمها لأنظمة حكم استبدادية أو تفتقر إلى الحد الأدنى الحيوي من الحرية في التعبير والتحرك حتى لا نقول في القرار. والقمع بطبيعة الحال كان من شأنه الحدّ من حيوية التحرّك في الشارع وأحياناً كثيرة كبت صوته عند مفاصل كثيرة. ونحن في قولنا هذا لا نعذر الشارع العربي وإنما نتفهّم معاناته.
أما الظاهرة الثانية التي تفسّر، وبالتالي قد تبرّر، هدأة الشارع العربي عبر سنوات من مرحلة حبلت بكثير من الأحداث والتطورات ذات الصلة الوثيقة بالوضع العربي ومسار القضية العربية بكل أبعادها، ولا سيما ما يتعلّق منها بفلسطين فهي واضحة؛ سبب ذلك يعود على ما يبدو إلى أن أعداء الأمة نجحوا للأسف الشديد في شغل شعوبها بمشاكلها عن قضاياها. الشعوب العربية جميعاً تعاني، ولو بدرجات متفاوتة، مشاكل وأمراضاً متشعبة ومتجذرة. والشعوب العربية باتت منشغلة إلى حدّ ملحوظ بمشاكلها عن قضاياها.
ترزح المجتمعات العربية، ولو بأنماط متباينة، تحت وطأة الكثير من الفقر والبطالة وحتى الجوع في بعض الحالات. إن سألت جائعاً أو عاطِلاً من العمل أو فقيراً مُعدماً كيف ستحرّر القدس، فإنه مع تعاطفه مع السؤال، سيكون جوابه أنه في حاجة إلى ما يسدّ رمقه وإلى فرصة عمل يجني عبرها ما يؤمّن أود عائلته المسكينة.
شغلوا الناس بمشاكلهم عن قضاياهم فكادت قضايا العرب، بما فيها قضية العرب المركزية، تضيع. وأعداء العرب ماضون قدماً في هذه الطريق، سوف يواصلون العمل على تعميق حال التخلّف والحرمان في العالم العربي كي يبقى الإنسان العربي منشغلاً بمشاكله عن قضاياه، ولا سيما قضية فلسطين.
هكذا يكون التخلّف والحرمان في خدمة إسرائيل والصهيونية ومشاريعها. وهكذا تكون التنمية الاقتصادية والاجتماعية مطلباً ملحاً على الصعيد السياسي والوطني والقومي.
علينا أن نعترف بأن ثقتنا بأنفسنا اهتزت خلال سنوات من غياب الشارع العربي. إلا أنّنا استعدنا والحمد لله الكثير من الاطمئنان مع هبّة الشارع العربي تلبية لنداء غزة وفلسطين أخيراً.
ولقد تلقّنّا من العالم دروساً بليغة على هذا المستوى. هاك الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يتّخذ موقفاً تاريخياً دعماً للقضية العربية، مُستعدياً الكيان الصهيوني الذي كانت تربطه بتركيا علاقات حميمة لسنوات وسنوات. فكان عربي الموقف أكثر من كثير من المسؤولين العرب. واللافت جداً أن هذا الرجل العظيم عندما يعود إلى بلاده بعد جولات في الخارج يعلن فيها مواقفه المشرّفة، تستقبله الجماهير التركية بأقصى الحفاوة والترحيب. الأهم في مواقف أردوغان أنه يعبّر فيها عن رأي عام تركي.
ولا ننسى موقف فنزويلا ورئيسها تشافيز الذي كان رائداً في دعم الموقف العربي. كما لا ننسى موقف بوليفيا التي أدانت ارتكابات إسرائيل في غزة وبادرت إلى معاداة الكيان الصهيوني في المحافل الدولية.
وكان لصمود غزة الأسطوري فعله في تبديل الكثير من مواقف العالم. عند بدء العدوان على غزة، كان أكثر العالم لا يحفل بما يجري على أرض فلسطين من مآسٍ وفواجع. ولكن بعد حين، بدأت التظاهرات تنفذ في عواصم العالم أجمع، في لندن وباريس وبرلين، لا بل في الشمال الأقصى لأوروبا في النروج وغيرها. فالدرس الذي نستخلصه من هذا الواقع، أن العرب لا يجوز لهم أن يراهنوا في دعم قضيتهم، إلا على أمر مركزي هو: وضوح الموقف العربي وصمود الشعب الفلسطيني ومواصلة النضال من أجل تحقيق المرامي القومية.