وائل عبد الفتاحالدولة قرصان عادل. هكذا، قيل إن القرصان استرد وديعته أخيراً في القاهرة حين فاز التيار الحكومي بانتخابات نادي القضاة. انتهت معركة الاستقلال بهزيمة واضحة وشبه كاملة للمجلس الذي خاض معركة الـ ٨ سنوات ضد هيمنة السلطة التنفيذية على منصات القضاء. عملية قرصنة محترفة استغلت طمأنينة المستقلّين إلى «نياتهم الطيبة» ووقوعهم في غواية «البطولة الشعبية». خطف نادي القضاة في مصر وعودته إلى أحضان الدولة ليس جديداً. الجديد هو اعتماد أسلوب محترف. حصار تليه وعود بالعطايا. نجحت العملية بعدما أصبحت المطالبات بالاستقلال طلباً للمستحيل. صخرة ثقيلة لا يقدر القاضي المرهق بأعباء الحياة على تحمّلها. الاستقلال شقيق الحياة المرهقة. هذه هي الصفقة: «إذا أردتم المزايا، فعليكم طرد المستقلين».
صفقة قراصنة مستقرّين دبّروا مذبحة قضاء صامتة. هي الثالثة (في عهد كل رئيس مذبحة). لكنها الأكثر تأثيراً لأنّها أماتت على البارد. دون دم فاضح كما حدث في مذبحتين كانت فيهما قرارات السلطة مدوية بإقصاء قضاء وإخلاء النادي وإقامة أسوار تنفرد فيه أجنحة النظام الناعمة بالقضاء الوقور.
القرصان نجح بامتياز في إعادة «النادي» إلى أحضانه. وترك الدموع والحسرة والآمال المفقودة في عيون الخارجين عن طاعته. استرد جانباً من نرجسيته الداخلية بعدما نهشت الأحداث الخارجية فيها من الخارج.
إضافة إلى ترميم النرجسية الجريحة، استرد نظام مبارك في معركة نادي القضاة مفهوم العدالة. أو بتعبير أدق «العدالة هي ما أمنحه لكم». عدالة لا تعتمد على مفهوم لحقّ بل مفهوم الأنصبة والتقسيم والغنائم.
يفرض القرصان سلطانه على الجميع، كلٌّ بطريقته. ومن يخرج عن الطاعة، فسيقابل بحرب قاتلة، ومصير المنبوذين.
هكذا تعامل نظام مبارك مع قضيتين مختلفتين بالأسلوب نفسه: فلسطين واستقلال القضاء. «حماس» خرجت عن طوع النظام في غزة. ومجموعة النادي فعلت ذلك في ثورة جعلت من شارع عبد الخالق ثروت في وسط القاهرة ميدان حرب على النظام (٢٠٠٦). كلاهما تعرض للمصير نفسه. عزلة منظمة لعبت على نرجسية التنظيمات والجماعات الصغيرة. شعرت «حماس» (بغياب الساحة الفلسطينية من مقاومة حقيقية ووقوع فتح في غواية السلطة). وشعر قضاة «الاستقلال» (وسط فراغ سياسي ابتلع التيارات السياسية المدنية) بأنهم يقودون ثورة على النظام.
فراغ الساحات عزّز العزلة، والقرصان دبّر تحالفاته جيّداً لكي تصبح المقاومة هي «حماس»، والاستقلال هي مجموعة النادي. العزلة توأم التطرّف، وارتفاع الحس الإرشادي عن السياسي... ومعهما بدأت الضربات ليكون عقاب أهل غزة بسبب حماس... وحرمان القضاة من حقوقهم بسبب مجموعة الاستقلال.
ارتبطت اللعنة بالخروج عن طاعة القرصان. وضاع الإيمان بالقضية عندما ارتبطت وجودياً بالتنظيم والمجموعة.
خرج القرصان منتصراً (بشكل ما) عندما انفرد بحماس على طاولة المفاوضات. وانتصر أيضاً بهزيمة «استقلال القضاء» بخروج مجموعة المستشار زكريا عبد العزيز ورفاقه من مجلس نادي القضاة.
القرصان وحده فاعل رغم كهولته. يفهم ويدبّر ويكسب في مصارعته مع المتمرّدين. مكاسب تضيف إليه مزيداً من السيطرة، ومزيداً من التبعية لأجندة الأقوياء.
بحر القرصان راكد. ثابت. بينما تتشكل المنطقة من حوله. إسرائيل تختار مزيداً من التطرّف. وإيران تقترح العودة إلى المعتدلين. انحياز إسرائيل الواضح رعبٌ من خيارات أوباما. واقتراحات إيران رسالة بأن «حزمتنا لا تقتصر على تشدّد نجاد». حتّى السعودية لديها قوة «التطور من الداخل» مبادرة واقتراح بنقلات كبرى في اتجاه تحديث متأخّر، لكنه يعبّر عن قوّة إعادة ترتيب قوى المجتمع في الدولة المغلقة على أسرارها.
وحده القرصان يلعب في مكانه. يسيطر بدون مبادرات حركة خارج رد الفعل. حركته باتجاه واحد: استعادة السيطرة. بينما تموت القوى الحيويّة موتها البطيء أو تصارع مصارعة الوجود والعدم.
مصير دولة القرصان على محكّ تغيّرات خارجه. وهو ما يفسر مفاجآت ماراثون التهدئة والهدنة. يحتكر القرصان المفاتيح. لكنّ حركتها رهن قوى تتكوّن خارجه. أبطال منتظرون. رسل معلّقون بين عواصم تتسابق على القيادة.
حرب مواقع يقف القرصان فيها خاملاً، لكنّ خموله شرس. قاتل. ومحبط. وهذا سبب آخر لتعثّر جراحات سياسية تجري بأدوات جديدة، لكنها على أسرّة قديمة. لا أفكار لامعة. لا مبادرات كبيرة. صراعات صغيرة. وقراصنة خريفهم يطول. يطول إلى درجة شجعت عليهم قراصنة الصومال. رديف الدولة التي صنعها جنرالات التحرر العربي. رديف القراصنة ينهش في شرعيات دول قراصنة. القرصنة ليست غريبة. الغريب هو موقعها. لم ينزعج أحد حينما نهشت الصومال وعادت ومن معها إلى القرون الوسطى. وحينما أفرزت قراصنة المحيطات من جديد، بدا الأمر مزعجاً ومعطّلاً حتى للقرصان العادل. لم يجد طريقة بعد لمفاجآت القراصنة الصغار، وترك أمر السفينة المخطوفة ليس لأنه يرفض الرضوخ، لكن لأنّه مرتبك. فقط مرتبك.