ريمون هنودكل العقلاء المتنوّرين، متفقون في ما بينهم، على أن التغيير هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بمحو آثار التخلف، والانعتاق عن البلدان المتعطشة إلى إرساء نظام ديموقراطي تحرّري. وفي لبنان الذي عانى الأمرّين من الوصاية والاحتلال طيلة عقود من الزمن، ظنّ الجميع لحظة تخلّصه منهما، أن البلد حَبلَ بأيام من الخير والانفراج الاقتصادي، ولكن ما فات الكثيرين أن الوطن لم يتحرر من محتليه الأساسيين، أي الطائفية والمذهبية، اللتين كانتا التربة الخصبة التي فتحت الأبواب على مصراعيها لولوج الأوصياء والغزاة المحتلين. فضلاً عن أن الوطن لم يتحرر من كل التقاليد البالية التي تهدف إلى إبقائه في ذهنية القرون الوسطى والعصور الخشبية والحجرية. ولا شك بأنّ الثقافة هي المدخل الأساسي للتحرر من ذهنيات التخلّف هذه.
فلم يعد مسموحاً في أيّامنا هذه، عندما يتجادل مراهق مع والديه في مسألةٍ ما، أن يظن الأهل أن الابن يتمرد على أوامرهما، وأنه في طريقه إلى الشذوذ والانحراف، فيُواجه بالتعنيف، بدلاً من تفهم مطالبه وهواجسه. المطلوب اعتبار الأب ابنه صديقاً له لا حاكماً عليه، واعتبار الأم ابنتها صديقة لها.
المطلوب إلغاء فرض الأوامر وسنّ القوانين التي تحكم العلاقة، لا بل تشوّهها بين الطرفين، واستبدالها بآلية صالحة عصرية تمتّن العلاقة بين الأهل والأبناء وفق أسس صحية سليمة.
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، إذا علم الأهل أن ابنهم مولع بلعب البيلياردو، اعتبار أن تلك اللعبة تندرج ضمن إطار ألعاب الميسر، وتجاهلهم لنواحيها الإيجابية، ومنها تقوية التركيز الذهني.
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، إذا علم الأهل أن ابنهم المراهق يحادث فتيات من سنّه ويختلط معهنّ، اعتبار أنه يرتكب المعاصي التي تغضب الله بدلاً من اعتبارهم أن ابنهم في صحة نفسية وعقلية جيّدة والشعور بالسعادة جراء ذلك.
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، إذا شوهدت فتاة من جانب محيطها تتكلم مع شاب غير مرتبطة به، إطلاق شتى أنواع النعوت بحقها واعتبارها سيئة السمعة.
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، إذا شوهد شاب يمارس رياضة الجري وإن كان تحت زخات المطر في فصل الشتاء، اعتباره ناقص العقل، بينما الصواب أنّ العقل السليم في الجسم السليم.
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، استمرار رفض زواج شاب وفتاة متحابين من دينين مختلفين، والتهديد في حال الإقدام على الفعلة، بنكران الأبوة والأمومة، والحرمان من الإرث العائلي.
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، استمرار السذج والجهّال اعتبار كل من ينتسب إلى حزب سياسي أنه «أبن شارع».
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، اعتبار كل من هو موسيقي أو فنان ورسام أو رياضي محترف، وكان قد أريد له أن يكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو رجل أعمال، إنساناً فاشلاً وغير محترم، ففنان بارع أفضل بكثير من طبيب فاشل.
لم يعد مسموحاً في أيامنا هذه، احتقار مهنة عامل النفايات التي تُعدّ بحدّ ذاتها مهنة في قمة الإنسانية لا تقلّ شأناً عن غيرها من المهن التي تخوض غمار العمل الإنساني.
إن الناس التي تودّ أن تنعم أوطانها بإصلاح سياسي واجتماعي وثقافي، عليها التخلّي عن حريتها وكبريائها وطبقيتها لكي تستحق أن تلفحها رياح التغيير.