نهلة الشهالأما وأنّ مهرجان 14 شباط قد أعلن الانطلاق الرسمي للحملة الانتخابية، فيقتضي الالتفات إليه بوصفه إطاراً لما لدى هذه الجماعة من تصوّر بشأنها. ليس مهاترةً، بل سعي لالتقاط وتعيين تضاريس الصراع القائم في البلد. وهو ما سيعاد فحصه بالنسبة إلى سائر الأفرقاء حين يدلون بدلوهم. الملاحظة الأولى بصدد المهرجان هي طغيان منطق انتقامي من حدث 7 أيار 2008، حين ردّ حزب الله على قرارات اعتبرها تصفويّة بحقّه بأن أحكم وحلفاءه لساعات سيطرتهم على المدينة، ما سمّاه وقتها تيار المستقبل، الذي يقود تحالف 14 آذار، «غزوة بيروت». المنطق الانتقامي لا يقتصر على اعتبار التحشيد للاحتفال الذي جرى منذ أيام ردّاً، بل هو يُنشئ جسراً يمتدّ منه حتى 7 حزيران المقبل، حيث يومها يكون «الرد». فعلى خيار التصويت العام أن يستبطن هذه الوظيفة ويعمل بمقتضاها. ها قد جرى التخفّف سلفاً من عبء العمل على برنامج اقتصادي واجتماعي يتولّى فرز الناس وفق مصالحهم وقناعاتهم. بينما يمثّل إدراج الرد على 7 أيار في وظائف الانتخاب العام تغليباً لاستقطاب أساسه طائفي، وإن امتلك مكوّنات سياسية. أي إنه يعتاش من إعادة إنتاج الانقسام السنّي ـــــ الشيعي بالدرجة الأولى، ومن مسلك يغرف من سجل الثأر العشائري: حين تبقى الموقعة حيّة كما كانت، لا يطرأ على روايتها أي تبديل أو تعديل، فهي إذا ليست حدثاً سياسياً، وهذا قانونه التفاعل الدائم، بل هي ماهية جامدة تستوجب الرد أو «غسل العار».
ثم جرى التلميح إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الناس، وإلى فشل باريس 1 و2 و3. ولكن لم يرد ذلك من منطلق ابتداع مقترحات للتصدي للأزمة العاصفة بالعالم، ومنه لبنان، ولا من منطلق إعادة النظر، أو على الأقل، تقويم خيارات الحكومات المتعاقبة في سنوات ما بعد الطائف مثلاً، بل، وهنا أيضاً، بوصف كل ذلك ممّا يُعاب على الفريق الآخر الذي «أهدر الفرص المتتالية» لباريس 1 و2 و3، وسبّب «فجوره السياسي» كلّ تلك الصعاب. وقد قدّم سعد الحريري خلطة واحدة «للثمن المدفوع»، فيها الحروب الأهلية منذ 1975 والحروب الإسرائيلية وبؤر الفوضى المسلّحة والعصيان المدني وتعطيل المرافق العامة، هكذا بلا تمييز، كأنها شيء واحد، مقطوع عن ظروف كلّ عنصر من عناصرها، وتفاوت سياقاته وحجمه، للقول إن الحل هو في «الاستقرار السياسي والأمني»، مع أنه يفترض أنّ هذا... نتيجة، وليس حلاً، وأنّ له شروطاً لا تقتصر على الرغبات. ولا يكفي فيه بالتأكيد الاختباء وراء «الدولة الحرّة المستقلة»، كما لو كانت تيمة أو تعويذة، فتصبح والحال هذه هي الأخرى ماهية مطلقة.
وحين يُتطرّق إلى فلسطين، ولم يكن قد مضى على مأساة غزة وقت يبيح التجاهل، يصبح الكلام أدق، أو هو قابل للصرف ضمن خيارات محددة قائمة حول الموضوع تهزّ المنطقة هزّاً. فسعد الحريري يتفجّع على الانقسام الفلسطيني ويقرنه فوراً بـ«تسليم قرار فلسطين إلى جهات ومحاور إقليمية» (وهذا بات الاسم الفنّي لإيران!). وهو تحفيز واضح وتحريضي على الانقسام، بينما هو يعيبه على الفلسطينيين ويعتبره «من علامات الآخرة»، فيما لا يرد لديه ذكر إسرائيل إلا كـ«آلة حربية» تحمّل وزرها الغزّاويّون. أمّا السيّد جنبلاط، فيغرف (هذا ساعة يشاء!) من تقاليد أبيه والحركة الوطنية، فيتوفر على مصطلحات أرقى مما لدى حليفه، متناولاً «مثلث الإجرام الإسرائيلي» الناتج من الانتخابات، وذاكراً حلّ الدولتين «قبل أن يفوت الأوان»، ومردّداً بهذا ما يمكن اعتباره موقفاً مطابقاً لما يقال في الدوائر الدبلوماسية الدولية.
ولكن ألا يوجد بخصوص فلسطين ما يمكن أن يقال، ممّا لا يسهم في مزيد من إيغال السكين في الجرح الفلسطيني، ومما لا يكتفي بترداد ميكانيكي للسقف المتوافق عليه دولياً؟ ألا يوجد مثلاً ما يمكن أن يقال بصدد الوضع المعيب للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهم جزء من «القضية الفلسطينية» لمن كان غيوراً عليها؟ ليس بخصوص نهر البارد الذي ضاعت تخوم ما جرى فيه بلا محاسبة للأصل والفصل، بل بخصوص مجمل وضع اللاجئين، حقوقهم المدنية والإنسانية التي لا تكف قرارات الحكومات المتعاقبة عن إلحاق الأذى بهم، وآخرها... قرار الرئيس الحريري حرمانهم من حقّ التملّك حينما أجازه لسائر العرب، بينما يستمر حرمانهم من حق العمل في معظم المهن، ويستمر إذلالهم بشتى الوسائل وتصعيب كل معاملاتهم. نعرف الحجة: الخوف من التوطين والدفاع عن حق العودة (وهذه أيضاً الاسم الفني للحفاظ على التوازن الطائفي في لبنان). ولكن، هل يمكن برنامجاً انتخابياً عاماً في البلد أن يتلافى الخوض في موضوع اللاجئين الفلسطينيين بغير تكرار الشعارات التي باتت هي الأخرى تعويذات وماهيات مطلقة؟ تناوله بالملموس، باقتراحات محددة تمثل التسوية الممكنة اليوم بمعنى العقد الاجتماعي الضروري. سؤال، بل أسئلة (إذا ما استعدنا الشق اللبناني من البرنامج الغائب) مطروحة على كل المرشحين للنيابة، لا على فريق 14 آذار وحده.