ناهض حتر *ألا تلاحظون معي أن الاهتمام بالعراق قد تراجع، بل تقهقر في وسائل الإعلام العربية؟ أظنه نوعاً من الخضوع اللاواعي ـــــ وربما الواعي ـــــ للمايسترو الأميركي الذي يقرر موضوعات النقاش. وقد اتجهت البوصلة الأميركية منذ 2007 إلى تناسي الشأن العراقي في السجال الإعلامي والفكري. وقد تبع العرب تلك البوصلة. إلا أن الأسوأ يكمن في ملاحظة أن التناسي العربي للعراق تصاعد طردياً مع تراجع العنف الطائفي في البلد. هل يمكننا أن نقول، إذاً، إن قسماً كبيراً من الاهتمام بالعراق، يعود إلى قوّة النزعات الطائفية في العالم العربي؟ وهل كانت شعبية المقاومة في سنوات 2003 و2004 و2005 ، تعبيراً عن نهوض وعي عربي مقاوم، أم إنها كانت تعبيراً عن سجال سنّي ـــــ شيعي بلغ ذروته مع المذابح المذهبية لسنة 2006 ـــــ 2007، ودفع العراقيون ثمنه الباهظ؟
المقاومة والعنف المذهبي انحسرا معاً. وقد كان لهما، رغم تناقضهما الموضوعي، لون ديني طائفي وضعهما في سياق صراع سني ـــــ شيعي مصطنع، ولكنه دموي وانتحاري. المقاومة المتمثلة في المنظمات الإسلامية ـــــ السنية اتخذت خطاباً مذهبياً صريحاً، ولم تستطع أن تميز نفسها عن الإرهاب القاعدي الوهابي.
في المقابل، المقاومة الإسلامية الشيعية المتمثلة، رئيسياً، في التيار الصدري، أوغلت في الخطاب المذهبي، وكان لها جناحها الخاص بها من المجرمين المذهبيين. وفي لحظة ما من الغرق في بحيرة الدم المجانية، بدأ المجتمع العراقي يستعيد صوابه. وقد تفاعلت تطورات داخلية معقدة، سياسية واجتماعية وثقافية، أهملها الإعلام العربي ـــــ أو أنه لم يفهمها ـــــ انتهت في الانتخابات المحلية الأخيرة إلى نصف هزيمة للتيارات الإسلامية، سنية وشيعية، وللتيار القومي الكردي الذي فشل هو الآخر في استقطاب الأكراد المقيمين خارج سيطرته الأمنية، لتأمين ولو مقعداً واحداً في بغداد التي تضم ما يزيد على مليون كردي.
العراق هو بلد المفاجآت الكبرى. ويبدو لي أن العقل العربي أضعف من أن يتابع القفزات العراقية: لم يحدث أن الإسلام السياسي سيطر على بلد عربي بالقوة والكثافة اللتين عرفهما العراق، ولم يحدث أنه أوغل في الدم والتشدد مثلما حدث في العراق. وما إن تكوّنت صورة عراق إسلامي طائفي مفكك في العقل العربي، حتى فاجأ العراق العرب بنفض عباءة الإسلام السياسي والطائفية والشوفينية القومية معاً.
لا تزال لتلك العباءة، بالطبع، مطارح وذيول. ورأينا في الأيام التي تلت الانتخابات المحلية في العراق محاولات لاستعادة العنف الطائفي، وإعادة خلق أجواء الإرهاب الأمني والسياسي في البلد. ولكنها محاولات يائسة من قوى لم يعد لها حاضنات اجتماعية ـــــ سياسية. فهي في خانة الحوادث الأمنية، لا في خانة الظاهرة السياسية. ولن نفقد الانتباه إلى خطورة تلك الحوادث التي قد يؤججها عسكريون أميركيون لقطع الطريق على تنفيذ تعهدات الرئيس باراك أوباما بالانسحاب من العراق.
غير أنّ ذلك الانسحاب في رأيي لا مفر منه، وربما في وقت أقرب مما هو متوقع، للأسباب الآتية: 1 ــــ أن الاحتلال الأميركي في العراق قد فشل، منذ 2003، ثلاث مرات. فشل أولاً في بسط سيطرته بالمعنى العسكري والأمني في مواجهة مقاومة عنيفة، لم تمهله وقادته إلى الفشل، وثانياً، وفي وقت مبكر، في مشروع «بناء أمة» ليبرالية فدرالية مفككة تتماهى مع كونها مركزاً إقليمياً للإمبراطورية الأميركية وفق مخططات بول وولفوفتز الخيالية. وفشل ثالثاً، في خياره «الواقعي» للتحالف مع الإسلام السياسي (الشيعي ثم السني) والشوفينية الكردية، وإقامة نظام المحاصصة الطائفية والإثنية. فهذه القوى تتآكل الآن، وذلك النظام أصبح هدفاً للنقض من قوى سياسية عديدة، لها مركز في قلب الحكم، أعني رئيس الوزراء نوري المالكي. لقد كسب الأخير جولة الانتخابات المحلية تحت شعار علماني لا إسلامي هو «دولة القانون». ومعه كسبت العشائر. وهي كيانات غير مدنية بالمعنى الليبرالي، ولكنها علمانية بالمعنى الواقعي. يسعى المالكي لإعادة تكوين الصدّامية. وهذا يعني حكماً مركزياً قوياً متحالفاً مع العشائر، يؤطّره خطاب وطني. بل إن واحداً من إجراءات المالكي الأخيرة، له رمزية ظاهرة في هذا السياق، أعني قراره إعادة تشغيل أحد مجمعات تصنيع السلاح.
أدرك المالكي أن محور إعادة تأسيس الدولة العراقية المركزية يتمثّل في إعادة تأسيس الجيش. ولذلك، أطلق مبادرة لاستيعاب ضباط الجيش السابق. وهم الجسم الأساسي لمنظمات المقاومة الإسلامية السنية. وقد ردّت أغلبية هذه المنظمات، ولا سيما حزب البعث، رداً سلبياً عنيفاً على مبادرة المالكي. إنه يسرق منهم مشروع(هم) بالذات: إعادة بناء الصدّامية. ولكن ليس بقيادة الصدّاميين ولا السنّة!
صورة صدّام حسين راسخة الآن بوصفه دكتاتوراً متعجرفاً أو بوصفه بطلاً. لكن تاريخ صدام الواقعي هو تاريخ التحالفات الداخلية، ثم الإنقلاب عليها، مع الشيوعيين والأحزاب القومية التركية ثم التحالف مع العشائر. تحالف ميّز الفترة الأخيرة من حكمه، ولم يتسنّ له أن ينقلب عليه. وبالنسبة للشيعة، فقد عرفوا سنوات ازدهار تحت حكمه. وهو لم يدّخر وسعاً، وخصوصاً قبل 1991، للتقرّب إليهم، ومدّ جسور التفاهم مع نخبهم المدنية وحتى الإسلامية (الصدرية). ولكنّ الانتفاضة الشعبانية في ذلك العام، التي كان نظام صدّام يسميها «صفحة الغدر والخيانة» هي التي آيسته من الإلحاح على استيعاب الجماهير الشيعية تحت «زعامته».
أما صورة صدّام «البطل الذي تحدى المشنقة»، فهي أيضاً لقطة ختامية من التقاليد العراقية (الزعيم الشيوعي فهد، والرئيس عبد الكريم قاسم). لكن تاريخ صدّام السياسي مكتظّ بالتسويات والتفاهمات مع الأميركيين (ابتداءً من انقلاب 1968) والفرنسيين وإيران الشاهنشاهية والسعودية والخليج. وقصدنا من التذكير الموجز السابق بتجربة صدّام حسين، هو القول إنّ نوري المالكي لديه الإغراء لتمثّل التجربة ذاتها. إنّه يغازل السنّة ويتقرّب من النخب المدنية، ويتحالف مع العشائر، ويفاوض المعارضة اليساريّة والوطنية في الخارج، ويأمل إعادة بناء الجيش تحت سلطته، وها هو يستخدم لغة التحدي (الناعمة، ولكن الجديدة) مع واشنطن التي يرى الآن أن «زمن تدخلها في الشأن العراقي قد ولّى».
صدّام جديد! إنه خيار مغرٍ أيضاً للمواطن العراقي الذي يحن للدولة والوحدة والأمن والمدارس والجامعات والخدمات الطبية والاجتماعية والبنى التحتية والوظائف... وبالنسبة لـ«الشيعي المظلوم»، فسيفكّر بأنه الحل الأنسب، أما «السنّي المهزوم» فسيفكّر أن صدّاماً علمانياً، ولو شيعياً، هو خير ألف مرة من حكم الإسلام السياسي الشيعي.
هل يستطيع المالكي أن يخوض التجربة الصدّامية حتى النهاية؟ وهل يعيد التاريخ نفسه إلا كسخرية؟ ربما. وهل هناك بديل عن الصدّامية، معدّلة، لإنقاذ العراق من التردي؟ أسئلة مفتوحة للنقاش.
* كاتب وصحافي أردني