محمد حيدررحلت عنّا وكم كنا نتمنى أن تكون بيننا اليوم لنستعيد معك هموم الماضي وآلامه، يوم اجتاح الغزاة بلدتنا الخيام، بعدما تحقق النصر الذي توقعت حصوله في رسالتك الأخيرة لعائلتك التي طلبت منك اللحاق بها خوفاً على حياتك. وكان جوابك على الرسالة: أحبّائي، كيف أترك الخيام وفيها مَن هو بحاجة لسماع دقات قلبه وقراءة ميزان الحرارة؟ اطمئنوا، غداً سيزول الاحتلال وتعود الأرض من مغتصبيها، وتشرق شمس الحرية من جديد ونحتفل معاً برفع رايات النصر.
وشاء القدر ألا يمهلك لهذا اللقاء، وكان السابع عشر من شباط عام 1977 آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، عندما اجتاح العدو البلدة، ملحقاً بها الموت والدمار وأنت في عيادتك تعالج أحد الجرحى الذي أصيب جراء العدوان لتتوقف إحدى آليات العدو المهاجمة أمام منزلك وتصب نيرانها على العيادة، وكانت الشهادة، لتنتقل روحك الطاهرة إلى جوار ربها آمنة، لأنه أرادها أن تكون إلى جواره في جنة الخلد مع قافلة الشهداء الذين سبقوك.
في مثل هذا التاريخ من كل عام، تتجدد الذكرى في شهر الشهداء الذي استشهد فيه الرئيس الشهيد رفيق الحريري واللواء الشهيد فرانسوا الحاج والمقاوم الشهيد عماد مغنية. وكان هذا الشهر أيضاً بدء الانتصارات؛ الثورة الإيرانية التي أطاحت نظام الشاه ليرتفع علم فلسطين للمرة الأولى فوق السفارة الإسرائيلية، وطُرد السفير الإسرائيلي منها وحلّت سفارة فلسطين مكانها، بينما لا تزال نجمة داوود مرتفعة في عواصم بعض الدول العربية والإسلامية. برحيلك عنّا، علّمتنا أن يكون الأمل بالحياة وقفة عزّ وكرامة، وأن تكون الشهادة بعد الفراق تاريخاً مجيداً يعلّم الأجيال القادمة عظمة الشهادة، وأن الأوطان لن تكون أوطاناً ما دام الاحتلال يدنّس الأرض ويستولي على ثرواتها، مفرّقاً بين أبنائها وناشراً الفساد في كل مكان... والمقاومة هي الطريق الوحيد إلى الحرية، فجسّدت بروحك ثورة الحسين في كربلاء التي انتصر فيها الدم على السيف والحق على الباطل. وبدأ زمن الانتصارات وولّى زمن الهزائم، وهذا ما حصل عام 2000؛ وفي تموز عام 2006، واليوم في غزة، واستعدنا أسرانا وجثامين شهدائنا واندحر العدو عن أرضنا تاركاً وراءه جنوده القتلى وآلياته المدمرة إلى ما وراء حدود العار، بما أنّ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن لا تعيد الحق إلى أصحابه وتبقى حبراً على ورق. وانتصر لبنان بقيادته الوطنية ووحدة شعبه وطوائفه وتلاحم جيشه الباسل ومقاومته الشريفة، وارتفع علمنا حاملاً أرزته الخضراء ودم الشهداء وبياض جباله إلى كبد السماء، ليكون البلد العربي الوحيد الذي انتصر على العدو في تاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي منذ عام 1948 حتى الآن. وفي هذه الذكرى، باسم شهدائنا نقول لحكامنا العرب، إن المفاوضات مع العدو من أوسلو إلى مدريد ومن تل أبيب والقدس إلى شرم الشيخ، لم تأت بنتيجة سوى الاستيطان فيما بقي من أرض فلسطين وسفك الدماء والاعتقال وإقفال المعابر عن غزة المحاصرة من كل الجهات، بما فيها معبر رفح العربي.
هنيئاً لك يا شهيدنا في عليائك، وسنسلك طريق الشهادة كما سلكتم ليبقى لبنان شامخاً بشهدائه، وكما قال أحد الشعراء: لبنان يا دار الخلود مراتعاً بدمائنا المجد وفيك اختال. الحرب نشبت كي يذلّوا أمّة عربية وييتّموا الأطفال. لن نترك أسرانا أسرى زنازينهم وجاء تموز وحطموا الأغلال. عاد سمير ومعه رفاقه على صهوات جيادهم أبطالاً... زمن الهزائم ولّى إلى أبدٍ والنصرُ آت، نصر الله قد قال، ونبتة التبغ لن تكون شامخةً والأرز لا يعلو إذا ما الدم سال.