هطلت خلال الأيام الماضية كميات لا بأس بها من الأمطار والثلوج بعد طول انحباس، بعدما عجزت أشهر «فحول الشتاء» المنصرمة، التي شهدت طقساً ربيعياً، عن تزويد لبنان بما يحتاج إليه سنوياً من متساقطات. والأمر ليس جديداً. فلبنان يشهد هذا التراجع منذ نحو 3 سنوات بسبب التغيّر المناخي العالمي. فما هي مظاهر هذا التغيير؟ وهل نتكيّف معه؟
البقاع ـ عفيف دياب ونيبال الحايك
الشمال ـ فريد بوفرنسيس
«وصلنا إلى الخط الأحمر»، بهذه الجملة المختصرة المفيدة، يلخّص رئيس مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية في لبنان الدكتور ميشال افرام وضع مناخ لبنان، في ظل تراجع معدل المتساقطات خلال السنوات الثلاث المنصرمة. لا بل إن افرام يعلن دخول لبنان في ما يصفه بـ«التطرف المناخي»، نتيجة الانحباس الحراري. ويؤكد افرام لـ«الأخبار» أن البلاد «بدأت تشهد بدايات تصحر، ففي العام الماضي كانت نسبة الأمطار الهاطلة 60% من المعدل السنوي العام (700 ملم)، والعام الجاري يحتمل وفق توقعاتنا أن تكون النسبة أقل من60% من المعدل السنوي العام، لأن المؤشرات في الأشهر الثلاثة الماضية، التي كنا نعتمد عليها لتوفير الأمطار والثلوج، لم تعطنا ما كنا ننشده أو نتوقعه». ويوضح افرام أنه في «تشرين الثاني الماضي بلغ معدل الأمطار الهاطلة 45 ملم مقارنةً بـ75 ملم للشهر ذاته من عام 2007، وسجّل 55 ملم في كانون الأول مقارنةً بنحو 150 ملم في الفترة ذاتها من السنة الماضية، أما في كانون الثاني، فقد بلغ مجموع الأمطار الهاطلة 25 ملم فيما سجل الشهر نفسه من عام 2008 ما مجموعه 170 ملم».
جولة على المناطق تعطي المعنى المطلوب لمضمون كلام افرام. ففي الشمال، تأخر حتى الأسبوع الماضي مشهد بياض قمم الجبال، ما أقلق أهالي بلدة إهدن التي تعودت أن تكون متشحة ببياض هذه الفترة من السنة، وأن تعج بحركة الزوّار، وخاصة أيام «الويك اند». أما اليوم، وحتى الأسبوع المنصرم، فقد كان من يقصد البلدة، لا يُشعره مشهدها إطلاقاً بأنه في بلدة جبلية ترتفع أكثر من ألف متر عن سطح البحر، فالطقس الدافئ والأزهار التي بدأت براعمها تتفتح، تُشعر المرء بأنه على عتبة فصل الربيع. ويقول نجيب اسكندر، أحد كبار الملّاكين هنا: «نحن لا نخاف على الزراعة لكونها تبدأ في إهدن خلال شهر حزيران، بل الخوف على المخزون المائي»، كما يقول متخوفاً من «أن تطول فترة الصحو، وتؤدي إلى الجفاف».
يلفت داوود خوري إلى أن «من يتأمّل أعالي الجبال يحسب نفسه في أيار لا في شهر شباط». خوري الذي لم يتعوّد أن يرى «منظر الجبال كما هو اليوم» من شرفة منزله المطل على جبال إهدن والأرز والقمم المجاورة يتنبّه إلى أنه لم يضطرّ يوماً «في مثل هذه الفترة من السنة إلى استخدام مضخة لإيصال المياه إلى شقتي». ويبدي الرجل قلقه مما قد يكون «عليه وضعي في فصل الصيف».
أما في البقاع، فيتخوّف المزارع أحمد البسط في سهل قب الياس من أن «جفافاً بدأ يضربنا، فقد تأخر تفجر الينابيع حتى الأسبوع الماضي، وقد بدأنا نستعد لمواجهة تراجع مستوى بئرنا». فيما قال زميله علي ساروط في سهل سعدنايل ـــ زحلة إنه لن يزرع هذا العام. ويضيف: «لم أشهد في حياتي طقساً كهذا، طول عمرنا نغرق بالمياه في فصل الشتاء، شيء غريب، لن أزرع شيئا لأني قد لا أستطيع تأمين المياه للري، ولننتظر آخر شباط إنشالله بيبيضها».
هذه الشهادات يعطيها د. افرام معناها العلمي فيقول إن هناك «أدلة على التبدل الطارئ على مناخ لبنان. فقد أصبح هطول الأمطار غزيراً وقصيراً، بحيث لا نستفيد منها، كما أنه لا بد من الإشارة إلى ظاهرة الغبار المقلقة التي شهدناها أوائل شباط، وهي تزداد، ما يؤدي إلى هطول أمطار موحلة كما شهدنا قبل أسبوعين، إضافة إلى أن الرياح التي يشهدها لبنان قوية خلافاً للمعتاد، فيما أصبحنا نشهد فروقاً كبيرة في درجات الحرارة في اليوم الواحد: فهي تكون 24 درجة نهاراً وفجأةً تصبح 7 درجات أو 8، والانتقال السريع من طقس بارد إلى دافئ، مؤشر واضح إلى تقدم المناخ الصحراوي نحونا».
انحباس المطر خلال ما يسمى «أشهر فحول الشتاء» يستدعي، وفق افرام، «خطة طوارئ مائية لمواجهة التحديات». ويقترح: «الاستعداد لمواجهة الشح من خلال: حصاد المياه، أي استغلال كل نقطة مياه أو قطعة ثلج إلى أقصى الحدود، عبر الإسراع في بناء السدود والبرك الاصطناعية، وترشيد استعمال المياه بدءاً من المنزل، واستغلال مياه الصرف الصحي بعد تكريرها لاستخدامها في ري المزروعات بهدف الحفاظ على المخزون الجوفي».
ويفسّر كلام افرام عن المياه الجوفية اللبنانية ما قاله مزارعو البقاع، فيؤكد أننا في «دائرة الخطر لأن مستوى المياه الجوفية قد تدنّى، وخير دليل على ذلك تأخر تفجر الينابيع، فمن خلال متابعاتنا للآبار الارتوازية في سهل البقاع وجدنا أن البئر على عمق 150 متراً لم تعد تعطي مياهاً كما منذ سنتين. هذا الأمر قد يلزم أصحاب الآبار الحفر حتى عمق 300 متر تقريباً، ما سيؤدّي حكماً لتكوين خطر على مخزون المياه الجوفية وعلى القطاع الزراعي عموماً».
لكن شباط، برغم هطول أمطاره وثلوجه أخيراً وهو ما يراه الدكتور ميشال افرام «ممتاز وجيد ومفيد للزراعة» إلّا أن ذلك «لا يحل مشكلة النقص الذي نعانيه». يضيف: «الخوف من أن لا يعطي شهر شباط معدلاته، ولدينا هواجس أن لا يكون في آذار متساقطات كافية أو مطلوبه بحدها الأدنى».
ويلفت الدكتور جلال حلواني رئيس قسم الصحة والبيئة في الجامعة اللبنانية إلى نقطة أخرى شديدة الأهمية وبديهية، إذ «إنه مع تراجع المتساقطات من الأمطار والثلوج تراجعاً ملحوظاً فإن نسبة الاستهلاك ترتفع» تبعاً للزيادة السكانية وحاجات الاستهلاك. وقال حلواني لـ«الأخبار» إن «مستهلكي المياه من مزارعين وشركات ومواطنين سيلجأون إلى زيادة الضخ من المياه الجوفية لتعويض النقص الحاصل في حاجاتهم، وهذا معناه استنزاف تدريجي للمخزون الجوفي». مشيراً إلى أنه «بات من الضروري الإسراع في بناء السدود المقترحة من جانب وزارة الطاقة والمياه، وخاصة تلك التي أجمع عليها العلماء والخبراء، وإدارة الحوض الجوفي بطريقة علمية مستدامة، مع ضرورة وضع ضوابط للضخ، وفقاً لمبادئ الإدارة المتكاملة لمصادر المياه».


نظام للإنذار المبكر