غيدا خليلأتيت إلى دبي في أواخر 2003. في ذاك الوقت لم أكن مقتنعة بمجيئي، وخصوصاً أني قد زرتها في عام 2000 ولم أغرم بها. كان في مجيئي نوع من الرجاء بأن أحرز تغييراً عملياً في حياتي.
كنت أقنع نفسي بالبقاء في الأشهر الثلاثة الأولى، حتى إنّني كنت أحجز مقعداً إلى لبنان في نهاية كل أسبوع!
قيل لي في ذاك الوقت إنّ كلّ من يأتي إلى دبي يحتاج إلى عام، يعود في نهايته إلى بلاده أو يتأقلم ويبقى لفترة طويلة. انقضى عام وفعلاً بدأت أتأقلم مع مواصفات الحياة: السطحية، الرفاهية، الحفلات المستمرّة (إذ أنّه لا خيارات متعددة لتمضية الوقت)...
في هذه الأثناء كنت ألاحظ التغيير السريع الحاصل. ففي خمس سنوات اتسعت رقعات البناء في البر والبحر على السواء، وتنافست العمارات الشاهقة لتطال الغيم... جزيرة النخلة التي بدأت أعمالها عند قدومي ها هي الآن واقع على خريطة الإمارات في عام 2009! برج دبي، مترو دبي... مشاريع عدة دخلت ميدان السباق.
تكثّف توافد الجنسيات من مختلف أنحاء العالم للعمل في المدينة، فقد أصبحت صورة دبي كمنجم للذهب، مدينة تعيش فوق السحاب، عالية عن عالم يتخبط بالفقر والأزمات الاقتصادية والسياسية.
كنت أراقب التطور السريع على الصعيدين العمراني والسكاني متوازياً مع ارتفاع كلفة المستوى المعيشي: غلاء الإيجارات، الطعام، الخدمات، بوابات التعرفة المرورية التي تزايدت...
بدأ التذمر يتزايد، لكن لا أحد يسمع، وكأنّ حكومة دبي تقول للوافدين: «اللي عجبو يبقى واللي ما عجبو يفلّ».
كانت الشعارات والإعجاب الأعمى من جانب مواطني دبي بإنجازات الشيخ محمد بن راشد تفوق التصور. كتابه «رؤيتي» الذي أصدره أصبح مقدساً ومثلاً يحتذى به. لقبوه بحارث البحر، ومقولته: «نحن لا ننتظر الحدث بل نصنعه» يمكن قراءتها على ألواح الإعلانات على الطرق.
كنت أرى في هذه المقولات نوعاً من التحدي لقوانين الطبيعة وقدرة الخالق، وكنت أسأل إلى أي مدى يمكن أن يصل بهم الغرور.
عندما كتبت هذا النص، أردت تسجيل ملاحظاتي التي كانت محط تساؤل. أشعر بأنّ الجواب جاء سريعاً مع بداية الأزمة المالية التي كشفت هشاشة الواقع. إذ أسمع كلّ يوم عن المشاكل المالية التي تمر بها شركات عملاقة، فما بالك بالمؤسسات الصغيرة! شركات استغنت عن خدمات الآلاف من الموظفين بحجة إعادة الهيكلة.
أشخاص كثر كانوا يتغنّون بدبي ويفخرون بها، فجأة أزالوا أقنعتهم وتخلّوا عنها: «ما عاد في شي يحرز للعيش هنا!».
غادر الآلاف البلاد خلسة تاركين وراءهم ديوناً غير عابئين بتسديدها، إما لعدم قدرتهم على ذلك، إذ استُغني عن خدماتهم، أو أنّهم استبقوا الأحداث.
التقيت أخيراً في بيروت شاباً حصل على الجنسية الإماراتية ويعمل في الإنتاج الإعلاني. عندما سألته عما يفعله في بيروت أجابني ببساطة: «بدبي فايتين بالحيط! عم نعمل ببيروت عشر مرات أكتر من دبي»!
أحسست بمرارة. لم أكن مقتنعة بإقامتي في دبي خلال سنواتي الخمس، ولكن يجب أن أعترف بإيجابيات عدّة، منها تطوري على الصعيدين العملي والإنساني، إذ التقيت خليطاً عالمياً لم أكن لألتقيه لو بقيت في لبنان.
عندما اشتدت الوطأة الاقتصادية والغلاء في العامين الفائتين كنت أتذمّر، ولكن لم أفكّر أبداً في أن أطعن في بلد استضافني سنوات عدة. وخصوصاً أنّ الفائدة كانت متبادلة لكلينا.
بدأت تفرغ دبي من سكانها شيئاً فشيئاً، وأسأل كيف ستصبح حالنا بعد أشهر عدة؟