لم يسقط اليسار العربي هكذا عفواً، ولم تكن عمليّة السقوط سريعة ومُفاجئة. ينسى جيل من العرب اليوم أن الأحزاب الشيوعيّة العربيّة في العراق وفي السودان، مثلاً، كانت أكبر الأحزاب العربيّة، وبلا دعم مُصطنع من المؤسّسة العسكريّة في تلك الدول. كان الشيوعيّون متغلغلين في كلّ العراق، وكانت الحوزات الدينيّة في النجف تعاني نزف الشباب نحو الحزب الشيوعي العراقي. كل ذلك تغيّر. بعضٌ من عناصر ظاهرة سقوط اليسار إقليمي، وبعضها قُطْري، وبعضها الآخر عالمي. الحزب الشيوعي الفرنسي يماثل قوّة حزب الوعد في لبنان، والحزب الشيوعي الإيطالي فقد بريقه من زمان. ماذا تغيّر؟
أسعد أبو خليل *
يمكن أن يعود المرء إلى البدايات. هناك من يتحدّث عن وفود من الكومنترن، لكن دراسات بدايات الشيوعيّة في العالم العربي تكمن في كتاب حنا بطاطو (هذا العظيم الذي مات مجهولاً من العالم العربي) عن التاريخ الطبقي للعراق وفي كتاب محمد دكروب عن جذور السنديانة الحمراء. كانت الدعاية الأميركيّة وحتى الدراسات الأكاديميّة الغربيّة عن انتشار الشيوعيّة في العالم العربي تبالغ في تعظيم دور الكومنترن في نشر الشيوعية: هي نظريّة المؤامرة التي لا تتعرّص للسخرية لأنها تأتي ممهورة من وزارة الخارجيّة الأميركيّة وأجهزتها الدعائيّة. صحيح أن الاتحاد السوفياتي عمل على نشر الشيوعيّة، كما عملت الولايات المتحدة على نشر... الرجعيّة حول العالم ـــــ ولا تزال، لكن البذور والشروط كانت محليّة. كان هناك بوادر ثوريّة ويساريّة عامّة، وخاصة في النشر السياسي والأدبي في مطلع القرن المنصرم. كانت الحركة الشيوعيّة واعدة في بداياتها، لكن السقوط كان مدويّاً قبل ـــــ لا بعد ـــــ اندثار الاتحاد السوفياتي.
تستطيع أن تحلِّل أسباب سقوط اليسار، لكن من الواجب ربط السقوط بالطرق المُعلنة والسريّة التي لجأت إليها الإدارات الأميركيّة المُتعاقبة لمحاربة لا الشيوعيّة وحسب، بل أفكار التنوير والتقدّم والتحرّر أينما ظهرت. وكتاب «الحرب الباردة الثقافيّة» (وقد ظهر في ترجمة عربيّة) يتضمّن الكثير عن تلك الحقبة وإن لم يتضمّن معلومات عن الشرق الأوسط لسبب بسيط: إن كشف الأرشيف الأميركي لا يزال يتستّر على الوثائق المتعلِّقة بالشرق الأوسط لأن العائلات الحاكمة هي نفسها والحكومة الأميركيّة تريد أن تحمي حلفاءها وعملاءها من الفضيحة، مع أن زمن الفضائح ولّى منذ ظهر محمد دحلان على شاشة تلفزيون عربيّة. هناك من المستشرقين (وحتى الراحل حنا بطاطو) من يتحدّث عن ظاهرة بروز فئات من الأقليّات الطائفيّة والعرقيّة في قيادة الأحزاب الشيوعيّة العربيّة. ينسى هؤلاء أن الأعضاء الشيوعيّين والشيوعيّات يتحرّرون من الطائفيّة داخل أحزاب اليسار رغم الانشقاقات الطائفيّة التي نخرت جسم الحزب الشيوعي اللبناني في أعوام أخيرة، كما نخرت أحزاباً يسارية وقوميّة من قبل، لكن ذلك كان معظم الأحيان بإيعاز خارجي. ثم إن حقبة الأربعينيات والخمسينيات لم تتأثّر مثل اليوم بما سمّاه جمال عبد الناصر يوماً (في إشارة إلى ظهور ورع لملك الأردن) «نوبة الدين». كان الفكر العلماني ينتشر وكان الاستشراق الغربي يقف مذهولاً، وكان الاستعمار الأميركي المُستتر بورقة عريش يغذّي ويموّل الحركات الدينيّة الرجعيّة التي فشلت آنذاك في استقطاب عنصر الشباب.
لكن يمكن إجمال أسباب السقوط بما يأتيأولاً، المؤامرة الأميركيّة حول العالم التي استخدمت دُور العبادة والحكومات والمكاتب الثقافية والإعلام لمحاربة الفكر اليساري والشيوعي. مثلاً، كيف يمكن الحديث عن فشل الشيوعيّة في أفغانستان عندما قامت الحكومة الأميركيّة متحالفة مع ملوك شخبوط من العرب بتمويل أكثر العصابات رجعيّة في العالم وتسليحها لقلب الحكم هناك: هناك وُلد بن لادن ورفاقه في الظلاميّة الإرهابيّة. وكتاب سيرة بابا الفاتيكان السابق لكارل بيرنستين أظهر مدى تعاون الكنيسة في أوروبا الشرقيّة مع أجهزة استخبارات أميركا لمحاربة الشيوعيّة. وكانت الولايات المتحدة تقوم بتهديد حكومات ـــــ مثلاً إيطاليا ـــــ والتدخّل المباشر في الانتخابات حول العالم لإبعاد اليسار عن الحكم، مثلما تتدخّل اليوم لإقصاء من لا يعجبها من الحركات الإسلاميّة.
ثانياً، البكداشية العربيّة قصمت ظهر اليسار. لا شك أن النموذج المبكّر في العشرينيات والثلاثينيات من الشيوعيّة العربيّة ذات المنحى الرومنطيقي قد اختلف عن حقبة الأربعينيات وما بعد، حين طغت البكداشية العربيّة. وشخصيّة خالد بكداش رسمت معالم الشيوعيّة المعاصرة: هذا الذي تلقّى تدريباً ستالينيّاً في عهد ستالين في موسكو عاد عاقداً النيّة على نشر نفوذ الاتحاد السوفياتي أكثر من اهتمامه بنشر الشيوعيّة أو فكر اليسار. وشخصيّته النرجسيّة (كتب عنها ماكسيم رودنسون في كتابه عن تجربته الشيوعية في سوريا ولبنان، كذلك كتب عنها قدري قلعجي، لكن الأخير لا يُركن إليه. اليساري السابق الأول في العالم العربي تحوّل من شيوعي متحمّس ونصير للطبقة العاملة إلى حامل حقيبة الأموال الكويتيّة لشراء الصحف في لبنان، كما روى إبراهيم سلامة في مذكّراته التي تصلح لأن تكون سيرة للإعلام العربي المعاصر وفساده) بالإضافة الى لينينيّته الفائقة في التنظيم، كرّسا نمطاً احتُذي في التنظيم الشيوعي العربي، من المغرب إلى لبنان. والبكداشية العربيّة جمعت صفات متعدّدة، منها:
1) اعتبار خالد بكداش نفسه المرجع الصالح لتقرير صوابيّة الموقف الشيوعي العربي باعتباره صلة الوصل مع موطن الشيوعية.
2) الإصرار على ماركسية ـــــ لينينيّة ـــــ ستالينيّة جامدة لا تقبل تعديلاً أو إضافة أو حتى اجتهاداً محلّياً طفيفاً. والترجمات الموسكوبية للتراث الماركسي لم تكن تعاني فقط رداءة فاضحة في الترجمة، بل عانت تحويراً مقصوداً واجتزاءً (تُراجع مقدمّة ترجمة العفيف الأخضر ـــ قبل تحوّله نحو الليبراليّة ـــــ لكتاب «البيان الشيوعي»). البكداشية لم تكن تقبل حتى الاستفادة من تراثات ماركسية تروتسكيّة أو ماويّة أو كورشيّة أو حتى تيّارات اليسار الجديد في ما بعد. كان البرنامج المُقرّر في موسكو هو المتّبع، ومن يشذ يُعلن مُرتدّاً من على السطوح، أو يُجبر على «الاعتراف» كما حصل مع «سالم».
3) اعتبرت البكداشية أن مصلحة الاتحاد السوفياتي الإقليميّة والعالميّة تفوق مصلحة الشيوعيّة العربيّة. وأكبر مثال هنا يتمثّل في حل الحزب الشيوعي المصري لنفسه عام 1965 إكراماً لعبد الناصر وبناءً على أمر سوفياتي لا يُردّ (يُراجع كتاب جويل بينن عن تاريخ الشيوعيّة المصريّة). هذا الحلّ أعطى أسوأ مثال في الارتهان لمصالح الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى نقص في المبدئيّة. كيف يمكن أن يحلّ حزبٌ نفسه عن اقتناع؟ وارتهان الحزب بموسكو أضرّ فعلاً بسمعة الحزب، وخصوصاً بعد قرار تقسيم فلسطين الظالم. كان الاتحاد السوفياتي يبدّئ مصلحته وتحالفاته مع أنظمة قمعيّة معادية للشيوعيّة على مصلحة (أو حتى حياة) الشيوعيّين المحليّين كما حصل في مصر والعراق.
4) البكداشيّة العربيّة اعتمدت نموذجاً تخطّى بأشواط مركزيّة لينين: القائد هنا يتفرّد بقيادة الحزب وذلك لتسهيل إمرار قرارات الاستخبارات السوفياتيّة التي تعاطت مع الأمناء العامّين فوق رؤوس الأعضاء. وإذا استفحل خلاف في داخل الحزب يمكن ردّه إلى بكداش، وإذا استشرى وتحوّل صراع أجنحة، يمكن ردّ الأمر إلى القيادة السوفياتيّة كما حصل مع الحزب الشيوعي السوري (يُراجع الكتاب ـــــ المرجع «قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري»).
5) البكداشيّة العربيّة عارضت تثوير الأحزاب الشيوعيّة في ما يتعلّق بقضيّة الصراع مع إسرائيل، ودفعت الثمن. والحزب الشيوعي اللبناني تمنّع عن تبنّي الكفاح المسلّح ضد إسرائيل حتى السبعينيات، وتحت ضغط القاعدة الجنوبيّة والطلابية، وتنافساً مع تنظيمات الثورة الفلسطينيّةولم تكن ظاهرة البكداشيّة العربيّة محصورة بالتجربة الشيوعيّة السورية، حيث حوّل بكداش تنظيمه إلى وقف ذرّي يُورَّث. وتدخّل في تعيينات قياديّة في جسم الأحزاب الشيوعيّة العربيّة، كما حصل في لبنان حيث صعد الثنائي البكداشي شاوي ـــــ حاوي بعد المؤتمر الثالث عام 1972.
ثالثاً، إن هجرة قادة الأحزاب الشيوعية العربية (هاجر بكداش مُبكرّاً إلى براغ في الخمسينيات) من العالم العربي بسبب التضييق والنفي والإبعاد باعد بين هؤلاء القادة والناس. نموذج عزيز الحاج (هذا الذي يتحمّل مسؤوليّة ضرب وقتل قادة في الحزب الشيوعي العراقي نتيجة اعترافاته وإخباريّاته لنظام صدّام حسين) فاقع هنا: كيف يتحوّل قائد شيوعي عربي إلى داعية حروب بوش وواحد من كتبة الإعلام الوهّابي؟
رابعاً، إن فشل الأنظمة العربيّة المُسمّاة زوراً تقدميّة (في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا) انعكس على سمعة الأحزاب الشيوعيّة العربيّة، وخصوصاً أن بعض قادة هذه الأحزاب تحالف مع تلك الانظمة ـــــ مثل تحالف بكداش مع النظام السوري أو تحالف بعض الرموز الشيوعيّة المصريّة مع النظام المصري أو برنامج عزيز الحاج التلفزيوني. أما الحزب الشيوعي اللبناني فلم يتحالف مع النظام اللبناني، لكنه تحالف على مرّ السنوات مع النظام السوري والعراقي والليبي، وخصوصاً في الحقبة الحاوية ـــــ الشاويّة. والتحالف مع أنظمة معادية للشيوعيّة (حتى لو رفعت شعارات يساريّة) ألحقت ضرراً بسمعة تلك الأحزاب ووصمتها بالانتهازيّة كما أنها أسبغت شرعيّة شعبيّة على قمع تلك الأحزاب، وخاصة أن القمع ترافق مع اعترافات (مثل ظهور الأمين العام لحزب «توده» على شاشة التلفزيون الإيراني) برعت في استخراجها الاستخبارات العربيّة. الاعترافات تلك حوّلت قادة شيوعيّين إلى نماذج من الخنوع والاستسلام السهل، بالإضافة إلى غباوة قاتلة في التحالفات (كان الحزب الشيوعي العراقي يفاخر بتحالفه مع نظام صدّام، كما دافع حزب «توده» عن الخميني).
خامساً، لم تحاول الأحزاب الشيوعيّة العربيّة (الستالينيّة ـــــ البكداشيّة وحتى الثوريّة) بناء نمط شيوعي مستقلّ عن موسكو، فتحوّلت إلى أذرع لأجهزة استخبارات شيوعيّة غربيّة. وقد سيطرت الـ«كي. جي. بي» على أحزاب الشيوعيّة التقليديّة بينما بنت أحزاب شيوعيّة ثوريّة (مثل تنظيم وديع حدّاد وحزب العمل الاشتراكي العربي وغيرها) علاقات بنيويّة مع استخبارات ألمانيا الشرقيّة وبلغاريا. وهذه العلاقات أسهمت في إبعاد الجماهير عن فكر تلك الأحزاب لأنها كانت تعتمد على الأوامر الوافدة حتى في أمور التثقيف الحزبي. صحيح أن جورج حبش حاول في بداية انطلاقة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين إنتاج ماركسيّة آسيويّة خاصة بالجبهة، لكن الاتصال الأول بموسكو قضى على تلك المحاولات كما قضى على بعض ثوريّة الجبهة الشعبيّة، لأن موسكو كانت تعارض «مبدئيّاً» أي مشروع عربي للقضاء على دولة إسرائيل. وكان شعار «إزالة آثار العدوان» السيّئ أقصى ما يمكن أن يقبل به الاتحاد السوفياتي.
سادساً، عانت الأحزاب الشيوعيّة العربيّة سلوكاً من التعاطي السياسي اتسم بالتقلّبات والتلوّن والتذبذب والانتهازيّة. ياسر عبد ربّه، على سبيل المثال، تحوّل إلى يساري سابق قبل أن ينشقّ (برفقة سائق ومرافق) عن الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين. والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين التي بدأت بالظهور كتنظيم يساري عربي «أصيل» ذي نفحة ثوريّة سرعان ما انضمّت إلى الهيكليّة العرفاتيّة، وبدأت بالتنظير لجدوى الكيان المسخ قبل أن تجاهر حركة فتح بذلك. فضلاً عن ظاهرة اليساريّين السابقين المُنتفِعين ـــــ من قدري قلعجي إلى جلال كشك إلى نسيب نمر، الذي كتب في جريدة حزب كميل شمعون في عز الحرب الأهليّة ـــــ مروراً بكريم مروّة الداعي الحريري وإلياس عطا الله الناشط في حاشية سعد ونادر الحريري.
سابعاً، عانت الأحزاب الشيوعيّة العربيّة تقصيراً فاضحاً في القضايا الرئيسية التي شغلت العالم العربي. ففي قضيّة تحرير فلسطين، لحقت الأحزاب الشيوعية بموقف موسكو الذي لا يُغتفر رغم مرّ السنين، كذلك فإنها لم ترفع شعار (أو تتبنّ ممارسة) الكفاح المسلّح إلا متأخّرة. لم ينضوِ الشيوعيّون العرب في صفوف المقاومة إلا أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، ما أتاح للقوميّين والرجعيّين احتكار الشعار. كذلك تخلّف الشيوعيون العرب عن معركة الحريّات مراعاةً لسياسة الاتحاد السوفياتي الشرق الأوسطيّة. والأحزاب الشيوعيّة ـــــ خلافاً للتجربة الماويّة المنبوذة عندهم بأوامر سوفياتيّة صارمة ـــــ أهملت العنصر الفلّاحي في الصراع، حتى إن برامجها خلت من إشارات إلى برامج للإصلاح الزراعي، بينما وعى أكرم الحوراني وجمال عبد الناصر أهمية المسألة. وأهملت تلك الأحزاب قضايا المرأة، وكان دورها في تلك الأحزاب أضعف من دور المرأة في بعض الحركات الإسلاميّة.
ثامناً، أساءت أموال النفط العربي (الرجعي والتقدمي) وأموال الدعم السوفياتي إلى الحركة الشيوعيّة العربيّة، ليس فقط بسبب شراء الضمائر والذمم والأقلام، بل أيضاً بسبب تحوّل الارتباط التنظيمي للعديد من الأعضاء ـــــ كما حصل في الثورة الفلسطينيّة وتنظيمات الحركة الوطنيّة اللبنانية ـــــ إلى وظيفة في أحسن الأحوال وارتزاق في أسوأها. كان العمل السرّي المنزّه عن النفع والتكسّب فعّالاً في اجتذاب العناصر الأكثر حماسة عقائديّة في الخمسينيات والستينيات. كذلك إن قسماً كبيراً من أموال النفط العربي، وخصوصاً بعد وفاة جمال عبد الناصر وبعد الفورة النفطيّة في السبعينيات، رُصدت لمحاربة أفكار التحرير والتنوير والشيوعيّة، ولنشر فكر الوهابيّة الظلاميّة التي نما بن لادن في كنفها وحظي برعايتها الملكيّة.
تاسعاً، غيّرت الثورة الإسلاميّة في إيران الخريطة السياسيّة في العالم العربي. الشعب الذي كان يعوّل بشيء من الاستكانة على تغيير الأنظمة التي جرّتنا إلى الهزيمة نظر بإعجاب إلى تجربة قلب واحد من أقوى الأنظمة في المنطقة. نموذج التعبئة الدينيّة ملأ الفراغ الذي تركه فشل الأيديولوجيّات القوميّة واليساريّة في العالم العربي.
عاشراً، أدى عامل الارتزاق والتكسّب، وحتى التوظيف كما أسلفنا، دوراً مهمّاً. كما في الغرب كما في الشرق، فإن الكثير من القادة الشيوعيّين كانوا يعملون في الصحافة والنشر والأدب والتعليم. لكن المال السعودي، وخصوصاً في الحقبة السعوديّة الثانية التي تلت حرب اجتياح العراق عام 1991، طغى على كل وسائل الإعلام والنشر والطباعة ومراكز الأبحاث. ومال رفيق الحريري وورثته ـــــ الحق يُقال ـــــ لم يقصِّر. واختفى بديل الإعلام المُموّل عراقيّاً أو ليبيّاً. اختار الكثير من الكتّاب التعاون والتعايش والارتهان لآل سعود، وتفرّغ شقيقا جورج حاوي للكتابة عن التزاوج والانسجام بين فكر جورج حاوي الشيوعي والفكر الحريري ـــــ الوهابي.
حادي عشر، أساء الحزب الشيوعي الإسرائيلي ومن لحقه من العرب إلى الحركة الشيوعيّة العربيّة لأنه روّج لنموذج من التعايش مع الدولة الصهيونيّة رفضته وترفضه أكثريّة الرأي العام العربي. كان ـــــ ولا يزال ـــــ مشهد جلوس أعضاء شيوعيّين في الكنيست الإسرائيلي نافراً ومُستفِزّاً للرأي العام العربي، وزاوج في أذهان الناس بين الشيوعيّة والتهادن مع الصهيونيّة.
ثاني عشر، لم تبتكر الشيوعيّة العربيّة ـــــ خلافاً للشيوعية الإسبانيّة أو لمدرسة فرانكفورت أو لليسار الفرنسي ـــــ نظريّة أو مدرسة محليّة لنموذجها اليساري. اكتفت بالاستشهاد بأبي ذرّ وببعض الأمثال الشعبيّة من التراث العربي. صحيح أن هادي العلوي والعفيف الأخضر وحسين مروّة ـــــ من قتل حسين مروّة؟ ولماذا لا ترفع القضيّة لمعرفة القاتل أياً كان؟ ـــــ حاولوا نبش التراث العربي والإسلامي لتحقيق نوع من التناغم بين الفكر الماركسي والتراث الديني، لكن المحاولات تلك كانت فرديّة. كانت اهتمامات بعض الأحزاب إما منفعيّة وإما ميليشياويّة أو استخباريّة.
ثالث عشر، لم تحسن الحركة الشيوعيّة العربيّة التعامل مع سقوط الاتحاد السوفياتي. بعضها تهاوى وبعضها اختبأ في زاوية خجلاً وبات نايف حواتمه يزور أمين الجميل ليحيّيه على تاريخه العريق في قتال الشعب الفلسطيني، والحزب الشيوعي اللبناني بات يخفي صورة ماركس ويُبرز فقط صورة غيفارا لأنه بهي الطلعة، وبعض الشيوعيّين العرب تحوّلوا إلى النشاط اليميني الوهّابي والحريري. كان يمكن الشيوعيّة العربيّة أن تنهض من جديد وأن تعيد صياغة عقيدتها بناءً على تغيّرات عالميّة هائلة بعضها يشكّل احتمالاً لنشر الماركسيّة من جديد، وخصوصاً أن فكر البيان الشيوعي لا يزال حيويّاً وراهناً. الحركة الشيوعيّة العربيّة غرقت في الكلام المُجترّ عن الديموقراطيّة وعن التنمية من دون نقد الفكرتيْن من منظار يساري.
رابع عشر، تعامت الأحزاب الشيوعية العربية عن «عقدة» الدين كما سمّاها ياسين الحافظ. استوعبت أفراداً من خلفيّات إثنيّة ودينيّة مختلفة، لكنها ابتعدت عن التصدّي لمضاعفات الفكر الماديّ الذي انتهجته نظريّاً. الياس عطا الله، مثلاً، يدعو «الشعب» اللبناني إلى الاسترشاد بأفكار البطريرك الماروني وهو من عتاة الفكر اليميني المتحجّر في البلد، واعتمد معظم الشيوعيّين المهادنة مع الفكر الديني أحياناً حفاظاً على الرأس.
خامس عشر، لم يحصل أن واجه حركة فكريّة وسياسيّة ما واجه الحركة الشيوعية العربيّة. فقد تكالب الأعداء من كل حدب وصوب لمحاربة الشيوعيّة، من البعث إلى الناصريّة والوهابيّة والإمبراطوريّة الأميركيّة والفكر الليبرالي (المُتعاون دائماً مع الاستعمار في أشكاله المُختلفة ومع الوهابيّة حديثاً) بالإضافة إلى الصهيونيّة وكل أشكال الأنظمة العربيّة. وزاد من مأساة الشيوعيّة العربيّة أن محاربتها على مرّ العقود استعانت بفريق لا يُستهان به من الشيوعيّين السابقين الذين تولّوا مراكز عالية في الأنظمة اليمينيّة وأجهزتها الإعلاميّة.
سادس عشر، افتقرت الأحزاب الشيوعيّة إلى شخصيّات كاريزماتيّة ساحرة. وتبقى تجربة جورج حبش فريدة، ولولاه لما كانت الفكرة الشيوعيّة قد انتشرت في المخيّمات الفلسطينيّة، إذ إن شخصيّة «أبو النوف» مؤثّرة في أوساط من لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة. طبعاً، الحاجة إلى القيادة الكاريزماتيّة ليست شرطاً محتّماً، لكنها مؤثّرة في كل المجتمعات. شخصيّة نقولا الشاوي هي مثل شخصيّة قاسم هاشم: مُضرّة بالفكرة التي يحملها وتحدّ من انتشارها.
ليست الدعوة للقنوط. على العكس. فمن لبنان إلى المغرب هناك فرصة فريدة لتنشيط اليسار العربي وإعادة بعثه، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصاديّة العالميّة وفي ظل التحالف بين الليبراليّة والوهّابيّة، وفي ظلّ الضحالة الفكريّة للتنظيمات الأصوليّة الإسلاميّة. لكن التنشيط يجب أن يتحرّر من رواسب الفكر الليبرالي الذي يربط بين التقدّم والترحيب بأشكال مختلفة وغير مُستترة من الاستعمار، كما أنه يتحالف مع المخطط الأميركي ـــــ السعودي ـــــ الإسرائيلي. أما اليسار، إذا أعاد الانطلاق، فإنه لا ينتمي إلى أي من المعسكرْين: إنه يشكّل معسكراً خاصاً به، لا يضمّ في ما يضم، الدول، بل الفقراء والمسحوقين والمعذّبين والمهمّشين في كل مكان.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)