Strong>نوال العليإذا رأيته مبتسماً دائماً، بأناقته اللافتة وهدوئه المفرط وحديثه العذب مع الغرباء، فلا تعتقدنّ أنك صادفت شخصاً سعيداً، التفاصيل العامة المعروفة عن حياته المثاليّة خادعة، ألا يحمل خمس درجات في الدكتوراه؟ ويعيش بين أجمل مدن أوروبا، ويتنقّل بين بروكسل حيث يعمل أستاذاً في الجامعة الحرّة ويسكن في باريس؟ أليست لديه زوجة جميلة وثلاثة أطفال يفخر بهم؟ أليست كتبه بين الأكثر مبيعاً في فرنسا؟
الإجابة عن كل هذه الأسئلة هي بلى. وعندما تفصح عن مكنون أفكارك لمالك شبل، وتسأل: هل أنت سعيد بما أنت فيه؟ يُفاجأ قليلاً، فالسؤال شخصي جداً، لكنّه يفاجئك بالمثل حين يجيب «لا، لست سعيداً، حياتي مجرد محترف». تعود بزمن هذا المحترف إلى الوراء، لتبحث في الحكايات المبكّرة التي تسببت بطفولة مكسورة الجناح، هذا الجزائري المهاجر كان طفلاً مهجوراً من قبل.
توفي بلحسين والد مالك في الحرب، فعاش مع أمّه زُهرة وجدّته وهي الزوجة الأولى بين عدة زوجات لجدّه حمّادي. كان شبل مدللاً في عائلة ممتدة ثرية، حفظ فيها القرآن صغيراً عن ظهر قلب. وبعدما استقلت الجزائر عام 1962، صدرت قرارات تأميم الممتلكات والأراضي الزراعية، فافتقر الجدّ وضاقت ذات يد رب العائلة الكبيرة، وما كان منه إلا أن بدأ بالتّخلي عن بعض أفراد أسرته، فقطع صلته بحفيديه مالك وشقيقه طيّب اليتيمين، إذ ليس من معيل لهما... فوضعهما في دار الأيتام، حيث عاشا تحت رعاية مشرف «سادي» للدار.
هكذا كان مالك مسلوخاً عن العائلة وهو ابن تسع سنوات، يعيش بين المهمشين، أما الدار التي أودع فيها، فقد كان يُرسل إليها المهرّبون الصغار واللصوص أيضاً، حياة يذكرها بجنوحها المطلق عن القانون. لنقل إنّها مضت، تلك السنوات بحلوها ومرّها، يتفوّق مالك أثناءها في مدرسة ملاصقة للميتم تسجّل فيها، حيث التقى معلمين فرنسيّين مكثوا في الجزائر بعد التحرير، اهتموا به اهتماماً خاصاً لما لمسوا فيه من ذكاء ونبوغ وجراح طفولة معذبة. وإن كان القدر قد سلبه من الأهل، فقد منحته الحياة أصدقاء مدّوا له أيديهم فتشبّث بها.
حصل شبل على منحة دراسية في قسم علم النفس في جامعة قُسنطينة وتخرّج منها سنة 1977 لينطلق هذه المرة مهاجراً طالب علم إلى فرنسا. هناك، هل توقف عن أن يكون عربياً جزائرياً؟ ومتى كان هذا؟ سؤال يثيره عمل شبل وكتابته بخطاب يرى كثيرون أنّه يناسب بل يغازل الغرب، وهو أيضاً سؤال يثير حفيظة شبل: «لماذا تظنين ذلك؟ أنا عربي مهاجر أعيش في أوروبا، ومعني بمشاكل المهاجرين». هؤلاء المهاجرون، حسب صاحب «تشكيل الهوية السياسية»، «إما أن يضعوا أنفسهم في موقع الضحية، ومنهم من يجد متعة ومكسباً في وضع نفسه هذا الموضع، وفي هذه الحالة لن تحسب الدول التي تستقبلهم لواقعهم حساباً... وإما أن تبدأ هذه الضحية بأخذ زمام أمورها من أجل الانسجام في المجتمع الجديد».
أما من الجهة الأخرى، فيجد المهاجرون أنفسهم أقليةً في المجتمع الجديد، إنْ أقدم شخص منهم على فعل سلبي، فستدان جماعته كلها. وإن أتى بفعل إيجابي فهو وحده مَن يثنى عليه! هذه هي حال المهاجرين، «فلو تسلل أي أحد إلى المترو، سيدفع ثمن التذكرة إذا أمسك به، ولكن الحال ليست نفسها إذا كان عربياً أو مسلماً أو أفريقياً. هو في الأولى مجرد شخص، قد يكون أياً كان بلجيكياً أو فرنسياً. لكنه في الحالة الأخرى هو من العرب أو المسلمين أو الأفارقة».
ويعود شبل إلى إصراره: «أنا أيضاً عابر بالمعنى وبالمفهوم الغربي الأوروبي». لكنه اختار أن يأخذ زمام حياته بقوة المعرفة لا بتوجس الغريب: سنوات الثمانينيات كانت معملاً للدراسة والبحث، فالتحق سنة 1980 بجامعة «باريس 7» ليحصل على درجة الدكتوراه في التحليل النفسي العيادي... ثم ألحقها بثلاث درجات أخرى في الأنثربولوجيا والإثنولوجيا وعلوم الدين من جامعة Jussieu سنة 1982... ليزيد عليها درجة أخرى في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس سنة ... ثم يصدر في العام نفسه أّول كتبه «الجسد في الإسلام» الذي أعيد إصداره منذ ذلك الوقت، في ثلاث طبعات.
بعد سنوات التحصيل العلمي الباريسية هذه، عاد شبل إلى الجزائر أستاذاً في علم النفس في جامعة قُسنطينة، إلا أنّ مكوثه لم يطل. إذ وجد نفسه ممنوعاً من الخوض في أفكاره الثورية ورؤيته الجدية للإسلام، وخصوصاً من جانب المتدينين. إذ كان في نظرهم يتجاوز الخطوط الحمر وهي كثيرة، فحمل متاعه وهاجر إلى فرنسا من دون رجعة.
قد تكمن خصوصيّة كتابة شبل في تلك الخلطة من المعارف التي جبلها بمفهومه الخاص للحرية. هذا المفهوم دفعه إلى البحث في قضايا مثيرة، تلقّفها القارئ الغربي كأرغفة ساخنة... ولا سيما أنّ هذا الأخير قارئ تسكن مخيّلته تصورات مكرّسة عن العالم الإيروتيكي للشرق الإسلامي. وبحسب شبل، فإن الجهل بين الشرق والغرب أمر متبادل، كلاهما لا يعرف الآخر بل يتخيّله، وأحياناً يتجاوز الخيال الواقع أو يتجاوز الواقع الخيال.
قدم شبل قراءة جديدة للجسد والعلاقات الجنسية. كتب عن الحب والرغبة وتحرر المرأة، وكانت معرفته بالمرأة وغرامه القديم والمتجدّد بها أساسهما اتصال حقيقي وقصص غرام مع نساء بدّلن عالمه: عائشة، مليكة، سابرينا، فتيات جعلنه يتعرف إلى جمال المرأة وسطوتها. حياة يفخر بها مالك، صنيع نفسه، حتى إنّ الروائية الفرنسية جانين بواسار أصدرت أخيراً رواية بعنوان «مالك»، تروي فيها سيرة حياة مؤلف «موسوعة الحب في الإسلام» و«التحليل النفسي لألف ليلة وليلة».
ومن السمات الأخرى التي جعلت من كتابته محط الأنظار، محاولته بناء صورة جديدة لإسلام تقدّمي تعددي، لكن أحادي في ما يخص شعائره، حتى اعتُبر أحد المصلحين في هذا المجال. وخصوصاً حين قدّم في كتابه «بيان من أجل التنوير» (2004) 27 مقترحاً لإصلاح الإسلام؛ أولها الحاجة إلى إعادة تأويل القرآن والحديث والفقه والتشريع، ووضع الأولوية للعقل على النقل.
بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، أصبح الإسلام، يثير الرعب لدى الغرب، «لدي شعور أحياناً بأنّ المسلمين سعداء بأن الغرب يخاف منهم». ولو سألت لماذا اختار شبل المتعدد المعارف والمصادر الإسلام موضوعاً لدراسته؟ وكيف اكتشف إسلامه الخاص؟ سيجيبك «اكتشفت الإسلام في الغرب، حيث هو أكثر غنى من الشرق، فالعيش كمسلمين في الشرق مسألة عادية، أما في الغرب، فنحن أقليّة تعيش وتكتشف نفسها وحدها».
كثيرون يعادون شبل وكثيرون لا يعجبهم ما يقول... أمر يعزوه هو نفسه إلى أنّه يقول الحقيقة، وهو بذلك يقول أموراً تجرح كثيرين: «أنا مثلاً لست فخوراً بالعبودية في الإسلام، وأرى أنّه ضحيتها». ولكن كيف يعرف مالك شبل أنّه يقول الحقيقة؟ «لأني أقرأ النصوص وأفهمها، ثم أحللها وأواجهها وأبحث في ما قاله الآخرون، لا أدعي أنني أقول الحقيقة الكاملة إنما هي حقيقة واحدة ضمن حقائق عديدة أخرى».


5 تواريخ

1953
الولادة في سكيكدا (500 كلم شرق العاصمة الجزائريّة)

1977
هاجر إلى فرنسا لإتمام دراساته العليا

1982
صدور كتابه المرجعي «الجسد في الإسلام». بعدها بست سنوات كتب مقدمة لترجمة إدوارد مونتي للقرآن، وقد صدرت طبعتها الثانية عام 2001

2003
أسس مع عدد من المفكرين، بمبادرة من رئيس المفوضية الأوروبية حينذاك رومانو برودي، «مجموعة حكماء» تسعى إلى تعزيز التبادل الثقافي بين أوروبا وجنوب المتوسط

2008
شارك «معرض الكتاب الفرنكفوني» في بيروت محاضراً عن «العبودية في الإسلام». وصدر له بالمشاركة مع مالكوم كلارك، كتاب «الإسلام للجاهلين» L'Islam pour les Nuls