فايز فارسيبدو أن إسرائيل تعاني الكثير من عدم قدرتها على القبول بالمتغيّرات والتحوّلات التي حصلت وتحصل في هذا العالم عامة، والشرق الأوسط خاصة. تغيرات بدأت منذ حرب تشرين 1973 التي أمّنت غطاءً للرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي هدر مقوّمات الوحدة السياسية العربية آنذاك واعترف بدولة إسرائيل، فأخرج مصر من بيئتها الطبيعية وتاريخها المجيد. ولم تسترجع مصر الكنانة موقعها، رغم عودتها إلى أحضان العروبة، لأنها بكل بساطة، فقدت تلك العناصر السياسيّة الأساسيّة التي كوّنت تاريخها الحديث، ولأنها تخلّت طوعاً عن ذلك الإرث الناصري العروبي الذي تلقّفه تدريجياً، ومن دون تردد، حكّام المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، وإن تنوعت قدراتهم وطموحاتهم.
في المقابل، راحت دولة إسرائيل تمعن في غيّها وعبثها بمصير الشعب الفلسطيني، فلاحقتهم في لبنان وأخرجتهم من بيروت لتقبل بعودة بعض رموزهم مكبّلين مقيّدين ملزمين «بالإقامة الجبرية»، ليعاملوا كلاجئين في وطنهم بعدما تعبوا من إقامتهم في أوطان الإخوة والأشقاء.
لكن حكّام إسرائيل اليوم يعلمون جيداً ولو بعد حين، أن اجتياحهم لجنوب لبنان صيف 1982، ووصولهم إلى بيروت، وإخراجهم عرفات «ومنظمته»، لم يكن أبداً انتصاراً. كما أنهم لم يقطفوا ثماراً تستحق الذكر من معاهدة السلام التي تربطهم بمصر. ففي الحالتين، برز إلى مواجهتهم من هم أكثر شراسة حيناً، وأكثر واقعيّة وبراغماتية أحياناً أخرى.
وانسحب الجيش الإسرائيلي «طوعاً» مرتين، مرة من جنوب لبنان عام 2000 ومرة من قطاع غزّة عام 2005. وخسرت إسرائيل عملياً كل معاركها في مواجهة المقاومة الشعبية خلال اجتياحها الوحشي للضفة الغربية وحربها الهمجيّة على لبنان صيف 2006. وخسارتها هنا وهناك، لا تُقدَّر بالمقاييس العسكرية الكلاسيكية، بل بتداعياتها الاقتصادية وأثرها النفسي في الرأي العام، داخل إسرائيل وعلى الساحتين العربية والدولية، الذي لم يعد مغفلاً مع وجود هذا الانتشار الكبير لوسائل الاتصالات والمعلوماتية الحديثة.
اليوم، ينتفض رؤساء العالم وشعوبهم، بعد أيام قليلة على بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزّة، بينما انتظروا طويلاً خلال الحرب المدمّرة على لبنان. ويستعجلون في تحركهم بحثاً عن حلول ومخارج لأزمة من صنع إسرائيلي مئة في المئة هذه المرة. ويعلو صوت الحكومة التركية عالياً في وجه حكّام إسرائيل، ضاربة بعرض الحائط كل المعاهدات والتحالفات القائمة بين الدولتين، ناهيك عن الدور الإيراني المتعاظم الذي حاز شرعية لا يجوز تجاهلها.
وللمرة الأولى، نرى الولايات المتحدة تتراجع نسبياً عن تأييدها المطلق لربيبتها إسرائيل، الذي عوّلت عليه خلال حروبها السابقة على الشعبين الفلسطيني واللبناني. كما تداعت الدول الأوروبية منفردة أو متّحدة للتدخل من أجل ردع إسرائيل عن عبثها القاتل، أقلّه من أجل التوصل إلى تسوية تحفظ ماء وجهها الملطخ بدماء أطفال غزّة الحرّة ونسائها.
أفهم أن حكّام أميركا ودول أوروبا ما زالوا يرون أن إسرائيل هي شرّ لا بد منه. وذلك لسببين واضحين: الأول لأن التخلّي عن المشروع الصهيوني ومتفرعاته يتطلب وقتاً طويلاً وغير محدد من أجل تحقيقه، لأن زعماء الصهيونية ويهود إسرئيل يجدون صعوبة في تقبل انكساراتهم التي تشير بوضوح إلى اقتراب نهاية حلمهم الكبير. والثاني يستند إلى أن الطبقة الحاكمة منذ 50 سنة في معظم دول المشرق العربي، لم تتغيّر فعليّاً، وبالتالي، تبدو غير قادرة على السير بشعوبها باتجاه التغيير المطلوب، بالرغم من كل مظاهر التطوّر المدني والازدهار الاقتصادي. فالمواطن العربي ما زال يرزح تحت وطأة الفقر والمرض والجهل وظلم الحكّام الجائر وأكاذيبهم، بهدف التغطية على خلافاتهم الشخصيّة وصراعاتهم القبليّة.
هم أنتجوا فقط اتفاقات وتفاهمات ليس أولها «الطائف»، وليس آخرها اتفاقي مكّة والدوحة... حفاظاً على بقائهم في السلطة وعلى مكاسبهم الشخصية وثرواتهم العائلية، قبل أي أمر آخر.
إسرائيل في مأزق، وقد أصبحت عبئاً على يهود العالم وأصدقائها المنافقين، بينما حكّامنا يتريثون ويتشاورون ويتجاهلون ما يردّده ويتندّر به في السر والعلن زعماء العالم عن الخلافات العربية ــــ العربية والفلسطينية ــــ الفلسطينية واللبنانية ــــ اللبنانية، محملين ملوك الدول العربية وأمراءها ورؤساءها المسؤولية الأكبر عن مآسي شعوبها.
وحده السيد حسن نصر الله أطلّ على العرب والعالم بأبهى حلّة وأعلى همّة وأقوى إرادة... قائداً يحذّر ولا يهدّد، يعدّ ولا يتوعّد، يطالب ولا يستجدي، ويذكّر لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين وغير المؤمنين.