محمد بنعزيز *شهدت شوارع الرباط مسيرة تضامنية مع غزة يوم الأحد 4-1-2009. مسيرة كثيفة رغم الأمطار، رُفع فيها العلم الفلسطينين ورُفعت أعلام «حماس» وحزب الله وصور تشي غيفارا ورفعت فيها الأحذية أيضاً. وردّد خلالها المحتجون شعارات «هذا عار، هذا عار، غزة في خطر»، «صامدون، صامدون، للتطبيع رافضون»، و«يا حكام الهزيمة أعطوا للشعب الكلمة»...
صبيحة اليوم التالي، طلعت الصحف المغربية بالعناوين التالية: «مسيرة مليونية في الرباط تضامناً مع غزة»، «مسيرة الشعب المغربي مع غزة»، «وزراء يدوسون علم إسرائيل بالأقدام»، «إدانة شعبية للأنظمة العربية والقوى الإسلامية تهيمن على مسيرة التضامن»، «الرباط تغلي بالجماهير المغربية الغاضبة في مسيرة المسيرات»...
قبل هذا اليوم المشهود وبعده، عاشت جلّ المدن المغربية مظاهر مختلفة للتضامن: أرسلت جمعيات مغربية قوافل تضامنية مع غزة، تطوع أطباء وصيادلة مغاربة للإسعاف، أُلغيت احتفالات رأس السنة في الإعلام العمومي، أجّلت الأسرة الملكية خطبة ابنة شقيقة الملك، أُجّلت الدورة الـ16 من البطولة الوطنية لكرة القدم التي كانت مقررة بداية الشهر الحالي، وفسرت بعض الصحف التأجيل بتخوف السلطة من خروج الجماهير في تظاهرات في الشارع... لكن الحذر لم ينفع، إذ نُظّمت مسيرات تضامنية أطّرتها الفعاليات الحقوقية والسياسية، وخرج تلاميذ وتلميذات الإعداديات والثانويات في مسيرات، وعُطّل التعليم لتجنّب انفلات أمني، فالحرم الجامعي يغلي. وفي فاس، جرت احتجاجات ومواجهات نتج منها تخريب ممتلكات عمومية وإطلاق القنابل المسيلة للدموع، ودخلت قوات الأمن الحرم الجامعي بحثاً عن طلبة «النهج الديموقراطي القاعدي»...
حين تتحدث إلى الناس في الشارع، تتفجّر درجات عالية من الغضب والإهانة بسبب العجز عن التأثير في مجرى الأحداث. قال أحد الشيوخ «لم يطوّع الجوع غزة، فدخل الجيش لتطويعها... والله ما تطوع». على الإنترنت، وخاصة على الموقع المغربي www.hespress.com سيل تعليقات غاضبة تجاوزت كل الخطوط الحمر: كتب مدوّن مغربي مشهور «خلعت الدول العربية سروالها أمام إسرائيل»، وأضاف: «أنا لم أعد أرى في إسرائيل ولا في أميركا خطراً علينا، لأن الخطر الأكبر بالنسبة إلينا، نحن الذين حتمت علينا الأقدار أن نعيش في هذه الرقعة الجغرافية المظلمة، يكمن تحديداً في هؤلاء الحكام المستبدين»... وفي المقهى، يتبادل الناس التعليقات على الصور المنشورة في الصحف: دبابات وطائرات ومشاة ومتفجرات على مساحة صغيرة، بينما صيتها على مقاس السماوات والأرض، خراب ودم وشهداء، أطفال ورجال ونساء... بشاعة تسبب غصة في الحلق وتجمد الدمع والدم في العيون.
على القناة المغربية، حصص من الطرب الأندلسي، بعده الأخبار. مراسلة القناة المغربية من غزة شابة مبتدئة متوترة قالت في اليوم الثامن للعدوان إن غزة «تعيش حرباً حقيقية». صحيح؟ بعد النشرة، عادت القناة لعرض مسلسل قديم. ينقل النادل المشهد إلى القمر الصناعي، يطلب المشاهدون قناتي «الجزيرة» و«المنار»، حيث متدخلون يسخرون بمرارة من الوزير المصري أبو الغيط... يشعر المشاهدون بأن حقهم استوفي. لا يستطيع النادل اختيار قنوات أخرى...
في المنزل، أختار القمر الصناعي والقنوات بنفسي، لأشاهد حرب تحليلات للأصدقاء والأعداء. هؤلاء واضحون، الخطير هم الأصدقاء المعتدلون، أختار القنوات التي تستفزني، «العربية» والـ LBC. هنا حرب يخوضها بالوكالة إعلاميون بعيدون عن خط النار، ينفون ما تبثه «الجزيرة» و«المنار» حرفاً بحرف.
قال محمود عباس «لا نريد أن تُدمر حماس لنحل محلها». قال مستشاره نمر حماد إن محرضي المحتجين «يستغلون مأساة الشعب الفلسطيني لتصريف إحباطاتهم ويتهمون الأنظمة»، روى محمد دحلان أن «حزب الله تخلى عن حماس».
بعد تصريحات القادة، يتهلل وجه محللي القناتين وهم يكتشفون محوراً إيرانياً ــ قطرياً ــ حمساوياً ــ نصراوياً في المنطقة، لكن «الفلسطينيين وحدهم يدفعون الثمن، وسوريا تحرض والجولان هادئ». ممثل «حماس» في الحوار محمد النزال ينفي وجود هذا المحور، وكان عليه أن يسأل ممن يتكون المحور الآخر. لم يسأل ونصبت له المذيعة فخّاً: كيف تساعدكم «فتح» في القتال؟ لم تسعفه الإجابة فتلقى لكمة ثانية: كيف يخدم انقسامكم إسرائيل؟ حينها تسلم مصري الكلمة وقال إن «حماس» تفردت بوقف الهدنة وقسمت الصف العربي... لا تتساءل المذيعة: ومتى كان الصف موحداً؟
روى اللواء حسام سويلم من القاهرة أنّ جنرالاً إيرانياً وصل إلى «حماس» وأنشأ مدناً تحت الأرض، ودرّبهم، وأن الأساليب الحمساوية شبيهة بأساليب حزب الله، وأن «حماس» ستعلن انتصارها مهما كانت الخسائر. سكت اللواء وترك للمشاهد فرصة استنتاج ما يلي: «حماس» شبيهة بحزب الله، حزب الله شبيه إيران، وعلى مقاس سقراط إذن، فإن...
في البرامج الحربائية، حتى الضيوف يسألون أنفسهم، قال أحدهم: كم سيكون عدد القتلى قبل أن تعلن «حماس» استسلامها؟ سألت مذيعة برنامج «أنت والحدث» ضيفاً من «فتح» عن المسؤول عما يجري، فأجاب بكلمة واحدة «الاحتلال». بُهتت المذيعة الجميلة ولم تعرف كيف تتابع، فأخذت استراحة وظهر شمعون بيريز يقول إنه لا يريد القضاء على غزة ولا على «حماس»، بل على الإرهاب، وتلا ذلك تقرير مفاده أن الجيش الإسرائيلي الآن أفضل من حاله في تموز / يوليو 2006...
وبعد الاستراحة، تسلم ضيف خبير الكلمة وأفشى أن قوة «حماس» تحت الأرض، وأن إسرائيل لن تتورط في قتال داخل المدن وستقوم بعمليات جراحية، ثم طرح سؤالاً يليق بضابط إسرائيلي: «هل إسرائيل مستعدة لتستدرجها «حماس» إلى شوارع غزة؟». لا يظهر إن كان هذا سؤال أم رسالة لجهة ما... كان محمد النزال يستمع مذهولاً وقد جرى تهريب النقاش من جثث الأطفال إلى خرائط لخبطها سيادة اللواء للارتزاق بها. للإشارة، سبق لصحافي إسرائيلي أن شبّه التعامل مع «حماس» أو اجتياح غزة بالاختيار بين الكوليرا والطاعون. ستحصل عليهما إسرائيل معاً، اجتاحت غزة دون أن تحقق شيئاً، وبعدها ستتفاوض مع «حماس»، لأن المقاومة هي الشعب الفلسطيني وليست المقاومة زائدة دودية سنزيلها بعملية جراحية. معذرة هذا موقفي. أعود للمحللين الحربائيين. يقول مصري إن «حماس» تفردت بإنهاء التهدئة، فيفصّل له محلل من دبي «العملية في غزة ستحرم إيران ورقة حماس».
ويكرّر ضيف ثالث أن إسرائيل لم تحقق أهدافها بعد. ما هي؟ منع «حماس» من الاحتفاظ بقوتها لتشكل خطراً على إسرائيل. هل ستحصل إسرائيل على الهدنة بعد الحرب؟ إسرائيل لن تحتل غزة رغم أخطاء حركة «حماس» فإن...
رغم زعمي أنّني أتمتع بالمناعة المكتسبة ضد هذه التمارين الإعلامية المفبركة، ورغم أنّني أجتهد لكشف الأنفاق التي تحفرها المذيعة للمشاهدين، فإن دمي يتعكر. أنتقل إلى قناة «المستقبل»، هذا ضيف يقول إنّ روبي توقظ الموتى من دون أن تغني. هربت إلى «الإخبارية» فدهشني مذيع يسأل ضيفه: لماذا ستعقد قمة عربية إذا كان الفلسطينيون منقسمين؟
في الحقيقة، التمارين الإعلامية القادمة من القمر الصناعي لا تشرح، بل تضلل. وقد عمل إعلاميو البترودولار على توصيف الصراع في الشرق الأوسط بأنه يجري بين محور سني عربي وأجندة إيرانية، وقد جرفت هذه الثنائية الكثيرين من العقلاء، لأن التكرار والتبسيط واستخدام الوقائع بمهارة، فبرك صورة متكاملة. لكن كثافة ودموية العدوان على غزة أعاد التوصيف الصحيح: هنا مقامة وهناك احتلال. والحقيقة هي ما يجري في الشارع وتنبض به قلوب الناس، أما ما يجري في القمر، فهو تمارين إعلامية مسمومة.
* صحافي مغربي