خالد صاغيةأكّد الرئيس ميشال سليمان في كلمته في افتتاح اجتماع غزّة في الدوحة، أمس، التمسّك بمبادرة السلام العربيّة. واعترض لبنان على تضمين البيان الختامي للاجتماع مسألة تعليق مبادرة السلام العربية مع إسرائيل. والواقع أنّ ولع لبنان بهذه المبادرة غير نابع من التبشير بالمحبّة والسلام، ولا من كون المبادرة قد انطلقت من بيروت، بل لأنّ المبادرة تتضمّن بنداً يرفض التوطين. هكذا يظنّ الرئيس اللبناني أنّه تحت شعارَي السلام والدفاع عن مقرّرات قمّة بيروت، يتمكّن من حماية ما يحسَبه المصالح اللبنانيّة الخاصّة عبر الدفاع عن مبادرة تتضمّن رفض التوطين.
ليس الرئيس سليمان وحده من يحمل هذا الموقف. ففريق 14 آذار يقف وراء القطبين المصري والسعودي، ويرفض بالتالي التخلّي عن المبادرة العربيّة، وكان قد سعى جاهداً لإقناع الرئيس سليمان بعدم الذهاب إلى الدوحة. لكنّ الأمر لا يقتصر على جماعة الرابع عشر من آذار، فالتيّار الوطني الحرّ كان قد حذّر ممّا يجري في غزّة لما تمثّله المجازر من تهديد مباشر لمبادرة السلام العربيّة. ولعلّ الوزير جبران باسيل كان الأبلغ في ربط الموقف من مجازر غزّة بالتوطين. ووفقاً لتسلسل منطقيّ متكامل، لخّص الوزير المتحالف مع المقاومة لجمهوره المسيحيّ (الذي سبق أن طالب له بعطلة الجمعة العظيمة)، لماذا يجب أن يقف لبنان إلى جانب صمود حركة «حماس». بالنسبة إلى باسيل، إنّ انكسار غزّة يصعّب إمكان نشوء نواة الدولة الفلسطينيّة. والدولة الفلسطينية تعني ارتفاع حظوظ حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم. وحقّ العودة يعني انزياح غيمة التوطين السوداء من فوق رؤوسنا. لذلك، ينبغي على لبنان أن يقف إلى جانب حركة حماس وأهل غزّة.
نحن أمام منطقين غير متطابقين، إلا أنّهما يلتقيان في انطلاقهما من النظر إلى مجازر غزّة من زاوية تأثير ذلك على التوطين. ومن حقّ كلّ دولة طبعاً أن تنظر إلى المتغيّرات الجارية في العالم من زاوية مصالحها الخاصّة. ومن حقّ أيّ لبنانيّ، إن شاء، أن يرى في المقاومة المسلّحة في لبنان خطراً على لبنان، وفي المقاومة المسلّحة في فلسطين خطراً على فلسطين. ومن حقّ أيّ لبنانيّ، إن شاء، الدعوة إلى توقيع أيّ اتفاق سلام إذا ما اعتقد بأنّ كلفة التوقيع اليوم أقلّ من كلفته غداً.
لكن حين يتعلّق الأمر بجرائم ضدّ الإنسانيّة، يصبح الأمر مختلفاً. فالسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا لو افترضنا أنّ مجازر غزّة تؤدّي، في نهاية الأمر، إلى إلغاء فكرة التوطين، هل كان علينا حينئذٍ أن نقف في صفّ الطائرات الإسرائيليّة؟ إنّ ذلك لا يُعدّ دفاعاً عن مصالح الدولة. إنّه، ببساطة، تخلٍّ عن إنسانيّة كلّ فرد منّا.
لكن، مهلاً، هل مبادرة السلام العربية هي فعلاً ضدّ التوطين؟ لنقرأ ما ورد بشأن اللاجئين الفلسطينيين في تلك المبادرة. ثمّة بندان يتعلّقان بهذا الأمر:
المبادرة، في الفقرة «ب» من بندها الثاني، تطالب إسرائيل بـ«التوصل إلى حلّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتّفَق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194». وينصّ البند الرابع من المبادرة على «ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة».
وفي مقابل هاتين الفقرتين، فإنّ المبادرة العربية هي النص العربي الأوّل الذي يعلن رسميّاً تخلّي العرب جميعاً عن الأراضي التي احتلّتها إسرائيل عام 1948، لا بل يرى أنّه إذا التزمت إسرائيل ببنود المبادرة، فإنّ العرب يعتبرون «النزاع العربي الإسرائيلي منتهياً».
صحيح أنّ المبادرة ترفض التوطين، إلا أنّها لا تنصّ على حقّ العودة. والتوصّل إلى حلّ «عادل» لمشكلة اللاجئين الفلسطينيّين صيغة تبقى مبهمة ونسبيّة، حتّى ولو رُبطت (بشكل غامض أيضاً) بالقرار 194.
إنّ المبادرة العربيّة يجب أن تكون مرفوضة لا بسبب تخلّيها عن أرض فلسطين وحسب، ولا بسبب تركها موضوع حق العودة مبهماً وحسب، بل حتّى من وجهة نظر رافضي التوطين. فكيف يتصوّر لبنان مصير فلسطينيّيه حين يُعلن العرب جميعاً أن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي قد انتهى، وأنّ اللاجئين قد وُجِد لهم حلّ «عادل» لا يتيح لهم العودة؟
عارٌ على اللبنانيّين أن يختزلوا علاقتهم بفلسطين والفلسطينيّين بالموقف من التوطين. وعارٌ على اللبنانيّين ألّا تحرّك فيهم دماء أطفال غزّة سوى التساؤل عن مصير مفردة مبهمة تختزل كمّاً من الرُّهاب والعنصريّة.