صباح علي الشاهر*تتوالى الدعوات لتوحيد اليسار العراقي، قصد إعادة فاعليته وتأثيره. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تُعلن أكثر من جهة أكثر من تحرّك. فهذا يدعو إلى إعادة توحيد الشيوعيين، وذاك إلى توحيد الشيوعية واليسار، وآخر يدعو إلى لمّ شتات التيار الماركسي، وغيره يكتفي بالدعوة لتوحيد اليسار... وفي حمّى هذا المسعى لا يفوت البعض تقديم كمّ غير محدود من التنظير، محدِّداً ــ وفق منهجه الماركسي، أو الماركسي اللينيني، أو الماركسي اللينيني الستاليني، أو التروتسكي، أو الماوي، أو الغيفاري ــ ثوابت ومرتكزات هذا التوحيد، دون أن ينسى إذا كان اليسار يدّعي التهجّم على اليمين (مطيّة الرأسمالية في الحركة الشيوعية)، ودون أن ينسى إذا كان يميني شيوعيّ قد ربط كل إخفاقات الحركة الشيوعية بالتطرّف اليساري (هذا المرض الطفولي في الحركة الشيوعية!). وتصل الحماسة بالبعض إلى اعتبار القضاء على مرض الطفوليّة اليسارية، أو اليمينية البورجوازية الهدف الأول والحاسم في النضال، بحيث لن ينهض اليسار من كبوته من دون أن ينهي هذه المعضلة.
هل يستطيع كلام مهما تبرقع بالبلاغة والحماسة إعادتنا إلى احتراب عقيم؟ وهل نحن بحاجة فعلاً في ظرفنا هذا الذي نعيشه إلى ماركسية نقيّة، أم شيوعيّة أصيلة غير محرّفة؟ شيوعيّة لم يستطع (مفتّشوها الأيديولوجيون) وحماتها وسدنتها من حماية نقاوتها المزعومة رغم ما توفّر لهم من إمكانات وقدرات وتحكّم كاد أن يكون تاماً لا في عقول وتفكير الناس فقط، بل حتى في أحلامهم؟
من ذا الذي قدّم الشيوعية كمعطى ثابت لا يتأثر بمجريات التطور، ولا تؤثر فيه معطيات الواقع؟ كيف يزعمون أنها علم ثم يحنطونها عند ماركس ولينين مثلاً؟ وإذا كان ثمة فائدة مرجوّة من العودة إلى شيوعية كهذه (وليس بمقدورنا أن ننفي وجود فائدة كهذه)، فما هو مدى هذه الأهمية، وكم هو حجم المعنيين أو المشغولين بها، قياساً إلى الهم الأكبر والأعظم والأشمل؟
السؤال الذي يجد مبرر طرحه الآن: هل كان اليسار يساراً، وهل كان اليمين يميناً؟ ثم وفق أي اعتبار جرى هذا التحديد، وعلى أي نحو جرى هذا الفرز؟ من هو اليساري في الحركة الشيوعية العراقية، ومن هو اليميني؟ ومن بمقدوره الآن، وبعد كل هذا المخاض العسير، أن يدّعي أن الحياة، وشواهد الحاضر قد بررت وزكّت نهجه ومنظوره ومنطلقه.
هل الذي ادّعى أن لدينا بروليتاريا مؤهلة ليس لبناء الاشتراكية بل بناء الشيوعية هو اليساري؟ وهل الذي ادعى أن علينا أن نأخذ بالحسبان درجة تطور بلدنا، وعدم تبلور بروليتاريا حقيقية لدينا، هو اليميني؟
هل تصلح مطارحات كهذه لتوحيد الشيوعيين العراقيين، الذين يُراد منهم أن يوّحدوا اليسار العراقي بكل تنوعه؟ هل بمثل بوصلة ومعيار كهذين يمكن أن نوّحد اليسار؟ هل نتوحّد لنحمي الفكر، ونقاوته، أم نتحد لحماية الوطن؟
والسؤال الآخر الذي سيثار أيضاً: ماذا نعني باليسار هنا؟ ومن هم ممثّلوه؟ أليس الحزب الشيوعي العراقي الرسمي مثلاً جزءاً من اليسار، أوليس هذا الكم من المثقفين الذين انخرطوا في ما يُسمى العملية السياسية، وكذا أولئك الذين عملوا فعلياً مع قوات الاحتلال بصفة مستشارين أو وكلاء وزارات، أو مديرين عامّين، أو صحافيين.. أليس هؤلاء جميعاً يساريّين، وبعضهم كانوا رموزاً للشيوعيين اليساريين أو الشيوعيين اليمينين، بمقاسات ذاك الزمن الذي غادرنا من دون أن تغادرنا آثاره المُدمرة. ما الموقف من هؤلاء؟ هل نطردهم من جنة اليسار، أم يطردوننا هم؟
على أية قاعدة يسعى اليسار العراقي للتوّحد؟ على قاعدة الأيديولوجيا أم قاعدة العداء للاستعمار والاحتلال والاستغلال؟ وإذا قلنا على الاثنين معاً، فنحن ملزمون وضع مفاضلة تؤدي بنا حتماً إلى الاقتراب من أحد طرفَيْ المعادلة. إذا أردنا توحيد الشيوعيين واليساريين العراقيين على قاعدة توفيقية مُتخيلة، وهذا مستحيل، فإن توحيداً على هذا النحو لن يتم إلا بالتضحية بواحد من اثنين، إما بالشيوعية، أو بالعداء للاستعمار والرأسمالية. وفي كلتا الحالتين سنكون أمام شيء آخر جديد. فإذا ضحينا بالشيوعية التي عرفناها، فإنّ من سيجري توحيدهم في هذه الحالة لن يكونوا شيوعيين ولن يكون من حقهم ادّعاء هذا التمثيل. وإذا ضحينا بالطرف الثاني من المعادلة، فسنكون طابوراً طليعياً للعولمة، وفيالق فكرية لتسويغ كل ما هو شائن، كما هو حاصل الآن من جانب الشيوعيين الرسميين، وسنكون كمن يرتدي قميصاً أحمر في صدره صورة البيت الأبيض.
من المؤكد أن المجاميع التي تدعي الشيوعية في العراق لن تتوحد، لأن الفوارق بينهم أضحت كالفروق بين البيت الأبيض زمن ترومان، والكرملين زمن ستالين. هل ثمة حاجة فعلية إلى جمع النقائض، أم أن الحاجة ملحّة لانبثاق يسار جديد، يسار وطني يبتعد كثيراً عن التنظير ويقترب كثيراً من الواقع؟ يسار يُدين ويرفض شيوعيّي الاحتلال والهيمنة الصهيوأميركية، ويتبرأ علناً من يساريّي العولمة ومشايعة أنظمة القهر والاستلاب والفساد. يسار وطني يتخندق مع التيار العروبي المقاوم، ومع الإسلام المجاهد، الإسلام المناهض للهيمنة الصهيوأميركية، إسلام غزّة وجنوب لبنان.
* كاتب عراقي