يقدّم الدكتور كمال خلف الطويل في هذه المساهمة، تصوّراً أوّلياً لخريطة القوى العالميّة في عام 2009، في ضوء تراجع الإمبراطورية الأميركية، محاولاً تعداد السيناريوات التي قد ترتسم على جبهة القوى الإقليمية والدولية من الهند والصين إلى أوروبا وروسيا
كمال خلف الطويل *
لو كان أنور السادات لا يزال بين جنبينا حتى اليوم ــ لولا لطف الله بخلقه ــ لما كان قد تردّد في إطلاق وصف «عام الحسم» على 2009، بل ومن دون ضباب، يراه دون سواه كما تشدّق عند نهاية عامه الحسمي 1971. والقاطع أنّ حسم 2009 هو مُنتَج أميركي بامتياز، لجهة إيصال محصلة تفاعلات وتطورات اعتملت منذ ريغانية 1981، وتصاعدت إثر السقوط السوفياتي 90/91، وارتطمت بصاعقة 11 أيلول 2001... إلى خواتمها المنطقية.
لنفحص بتأنٍّ تلك الخواتم:
أُولاها أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تخلّقت في الولايات المتحدة أوصلتها إلى حال من الدعث والضنك لا تخفى على بصير. لقد خفضت هامتها وأوهنت قامتها وقسرتها على ابتلاع المر (شلل أيار/ مايو 2008 في لبنان، وعراء آب/ أغسطس 2008 في جورجيا، والنكوص عن ضم جورجيا وأوكرانيا لحلف شمالي الأطلسي في كانون الأول/ ديسمبر 2008، ونهي إسرائيل عن أية حماقة عسكرية تجاه طهران مطلع العام).
والثابت أن فداحة الأزمة وعمقها ومداها، كلها من الصنف الذي يستعصي على الحل، إلا بتبديل نهج بنهج مغاير له بالتمام والكمال: NEW PARADIGM.
معالم ذلك ــ من عدمه ــ تدلف من رحم 2008 إلى سطح جسد 2009 مرئية لكل راءٍ، ونذيرة بأن التبديل سبيل إنقاذ، وأن تضييع فرصة ضرورته وصفة غرق بلا قاع.
وثانيها أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة ألحقت خسائر فادحة ــ وإن متفاوتة ــ بكل قوى العالم الرئيسية، لا الولايات المتحدة وحدها... وإن كانت هي المتضرر الرئيسي فضلاً عن كونها المسبّب الأوحد.
نظرة طائر فوق المشهد العالمي تحفل بالإشارات التالية:

روسيا:

وهي تعاني من سعر نفط يحوم حول 35 دولاراً، وقابل للسقوط إلى أدنى مع تفاقم حالة الانكماش الاقتصادي العالمية وإضعافها لاستهلاكه.
ودّت واشنطن حبك سيناريو خفض كهذا، لكن بطرق أخرى وبأسلوب بؤري يؤذي من تستهدفه فقط، لا ذاتها في المقام الأول (انظر مقال الحرب الباردة... بالطاقة ــ «الأخبار» عدد 9/16/2008).
والحاصل أنّ روسيا تحتاج إلى سعر 75 دولاراً للبرميل لتنهض بتنميتها وتدعّم دفاعاتها. لقد اضطرتها الأزمة إلى خسارة ثلث احتياطاتها الدولارية (التي وصلت لذروة 620 بليوناً قبل الأزمة) وخمس قيمة روبلها أمام غيره من العملات، وهروب رساميل أجنبية إعمالاً لمقولة الأهم قبل المهم.
لا تقدر روسيا على احتمال هبوط سعر النفط لمدة تفيض عن بضعة أشهر، ومن ثم فأمامها إحدى سبيلين:
الأولى: أن تصل لكلمة سواء مع منظمة «أوبك» تصك فيها معها عقداً ملزماً بخفض إنتاج النفط بما يتلاءم مع انخفاض الطلب عليه في أجواء الأزمة الراهنة، وبما يكفل لإيصاله لنطاق 80 ــ100 دولار.
منطق الأمور يفضي إلى منطقية توقع هذا السبيل، لكن عقدة المنشار هي... آل سعود. لقد عوّدونا الانصياع لواشنطن كما في وقفهم السريع لخفض الإنتاج إثر حرب أكتوبر في آذار/ مارس 74، من خلال رفعهم الإنتاج لأقصى مداه عام 86 بغرض إفلاس الاتحاد السوفياتي والثورة الإيرانية وبما أودى به لسعر 6 دولارات للبرميل الواحد، وفي أداء دور المنتج المنقذ للمستهلك الأميركي كلما لاحت تباشير ارتفاع مستدام طوال ثلث القرن الأخير. هل يصيخون سمعاً هذه المرة لمصلحة وطنهم (دون إغفال وجوب أفضلية التعامل نحو عوالم العرب والإسلام والفقراء)، عوضاً عن السيّد المعبود؟
هم فاعلون إن تأكدوا أن غضب موسكو وطهران، مجتمعتين، يفضي لا مناص، إلى تهدّدهم بمخاطر بين أيديهم ومن خلفهم.
لحينها، سيماطلون ويخادعون، وهم من هم في وفائهم لمقولة الحب للحبيب الأول... والأخير.
السبيل الثاني: أن توضح لموسكو أن طريق «أوبك» غير ذي زرع، هو توتير الأجواء في محيطها طلباً لهدفين متزاوجين: 1 ــ كسب صفاء سيادتها على كل شطآن البحر الأسود، أي وضع اليد على شبه جزيرة القرم وانتزاعها من القبضة الأوكرانية.
2 ــ رفع أسعار النفط والغاز إلى نطاق 80 ــ 100 دولار. إذاً في الطريق، مواجهة أياً كان السبيل الذي تسلكه.

الصين:

وهي متضرر رئيسي من الأزمة بواقع اقتصادها القائم على التصدير... وللسوق الأميركية بالأساس. ستتقلص احتياطاتها من تريليوني دولار، بسبب اضطرارها لاستعمال حيّز لا بأس به منها في إنعاش الداخل وفطمه عن الاعتماد على التصدير بواسطة تعظيم قدرته على الاستهلاك، وأيضاً بسبب انخفاض سعر الدولار المرتقب، ما سيخفض من قيمة تلك التحويلات ويرفع أسعار المنتجات الصينية جاذباً تنافسيتها لأسفل. والحق أن الإنعاش المحلي مهمة شاقة وطويلة الأمد عندما نلحظ أن مستوى الأجور شديد التواضع بدءاً، وأن مئة ألف مصنع أُغلقت هذا العام ومعها تسريح حجم عمالة من 140 مليون عامل مؤقت هجر الريف الفقير إلى وعد مدن الساحل الصناعية.
في المقابل، فإن انخفاض سعر النفط سيمتص قدراً من نفقات الإعالة، مجيّراً إياها للإنفاق على الداخل. ليس أمام الصين ــ ولا سيما مع تفاقم الانكماش الأميركي لحد الكساد ــ إلا التوقف عن شراء المزيد من السندات الأميركية، بل وبيع بعضها بالتدريج، مع توجيه استثماراتها للداخل بهدف إيجاد تنمية عالية الوتيرة للريف الصيني تكفل الوصول به لقدرة استهلاك موازية لمتقدمه في الساحل.
سيتصاحب ذلك مع المزيد من خفض «ألوان» الصيني سعياً إلى الحفاظ على قدرة تصديرية تنافسية معقولة تتوازن مع التوجه للداخل.
إذن، أمامنا افتراق صيني ــ أميركي مضاره على الاثنين معاً، مع رجحان أميركي في التضرر.

أوروبا:

أحد آثار الأزمة هو تدهور أحوال القارة، من البلطيق للأطلسي، معطوفاً على افتراقات بين ــ أوروبية في المصالح والرؤى والمناهج، ومصحوباً بتباعد أوروبي ــ أميركي في السبل والتصورات. أوروبا «الأصيلة» (فرنسا وألمانيا وإيطاليا) مثلاً تريد وفاقاً مع روسيا بسبب حاجتها الطاقوية منها، وتودّ تفاهماً مع الشرق بداعي ذات الحاجة، فضلاً عن فيض الديموغرافيا وفيضان العنف، وتعلم علم اليقين أن حليفتها على شاطئ الأطلسي المقابل لم تعد كما كانت همّة وعزماً، ما يدفعها إلى المزيد من التعقل والاهتداء بسواء السبيل.
ستخرج أوروبا من الأزمة أضعف مما كانت، وأقل تناسقاً وتنسيقاً، وأكثر إقبالاً على تبديل «النهج» وتشجيع حليفها عليه. بريطانيا بالذات هي أكثر المتضررين لأنها، بالتحديد، أوفى التابعين... بغير إحسان.

الهند:

يتشابه وضعها بعض الشيء مع جار الشمال اللدود، بفارق أن اتكال اقتصادها على التصدير أقل بعض الشيء، ومن ثم فتكيّفها مع الأزمة أوفر مرونة يعينه استمرار انخفاض سعر النفط (إلا إذا تمكنت روسيا من عكسه).
والراجح أن النخبة الهندية التي ألقت أشرعتها في اتجاه الرياح الأميركية بعد السقوط السوفياتي، وبالتحديد في أعقاب 11 أيلول، مراهنة على شراكة بين قويّ المحيط الهندي وعتريس البحار كلها، يوازن بها الاثنان معاً ما للصين من ثقل متنامٍ لا يعرف حدوداً ــ وإن اعترضته عوائق ــ هذه النخبة لا تجد نفسها قادرة على استحواذ الالتزام الأميركي ــ الذي يوزع هواه بين الهند وباكستان لضرورات الحرب الطويلة على الجهادية السنية ــ لذا فهي تعيد حساباتها، بواقع ما تلمسه من تداعٍ أميركي متسارع لتتأبط خياراً آخر سبق والتزمته لعقود أربع، قبلما أرخت نظرها قبلة واشنطن، ألا وهو الخيار الروسي، وبأمل أن تكون روسيا خميرة تفاهم بين ضلعي المثلث الآخرين ــ الهند والصين.
مصلحتها في هذا الخيار عارمة بفعل اجتماع حوافز سلبية وإيجابية، منها الوصول إلى صلح تاريخي مع الصين على الحدود والتيبت وكل العوالق، ومنها الاستناد إلى مزوّد طاقوي رئيسي يتّكل عليه، ومنها كبح خطر الجهادية السنية التي تشتبك مع الثلاثة في صدامات تبدأ ولا تنتهي. والراجح عندي أن الهند ــ بحزب المؤتمر أو حتى باليمين ــ هيّابة من الوصول مع باكستان إلى حدّ الحرب المسلحة الواسعة النطاق مخافة تصاعدها لعتبة المواجهة النووية. أصل إلى القول إن تلك الخشية ستتناسل أضعافاً إن بدّلت باكستان نخبتها الحاكمة بأخرى أشد عداءً. ما يجب احتسابه ــ ختاماً ــ هو تفاقم التوتر الطائفي في الداخل الهندي لحد العنف المسلح، وسط أجواء الصعود الجهادي في باكستان، ونقيضه التطرف الهندوسي في الداخل.

إيران:

هي متضرر كبير من انخفاض سعر النفط، ولا سيّما أنها تواجه عقوبات أطلسية لا يستهان بها، فيما الثابت هو لزوم سعر 60 دولاراً للبرميل حتى تتوازن ميزانيتها.
تلواً، فهي ستفعل ما في وسعها لتوفير مناخات تصعد بهذا السعر لنطاق 80 ــ 100 دولار، سواء بالتراضي داخل أوبك ــ وبها مع روسيا ــ أو بليّ أذرع «آلات» سعود ونهيان والصباح إلى أن يصغوا لكلمة سواء... (وباعها في هذا المقام طويل)، أو بإعادة تسعير نيران الجهادية الشيعية في جنوب العراق ووسطه، سبيلاً لرفع السعر من جهة، والضغط لتسريع الانسحاب الأميركي من العراق من جهة أخرى.
وحتى مع دخول العالم أجواء كساد عظيم، فإن انخفاض إنتاج النفط بنسبة 25% عن مستواه الراهن كفيل بتوفير سعر 80 دولاراً للبرميل، علماً بأن سنة ذروة إنتاجه هي ما بين 2009 ــ 2013.

أميركا اللاتينية:

ما ينطبق على إيران يماثله الحال في فنزويلا، ومن ثمّ فالخروج من عنق الزجاجة هو الراجح بامتياز. سيشتد عود دول الممانعة والتمرد اللاتينية مع تعاظم الوهن الأميركي، وستجد طريقاً لها لبناء سوق اقتصادية مشتركة على النسق الأوروبي ينمّي فطامها عن يانكي الشمال، واتكالها على النفس وعلى عودة الحرارة لعلاقات بعض أطرافها مع روسيا، ونشوء أواصر متينة بينها ــ أي روسيا ــ وبين أطراف مستجدة، وكذا الحال مع الصين. هي منظومة ستكون من أقل القوى العالمية تأذّياً من الأزمة، ومن أقدرها على تنكّب طريق السلامة.

الجهادية السنية:

وهي بالقطع قوة يحسب لها حساب في ميدان صراعات القوة والعقائد والمصالح، بصرف النظر عن الرأي بها، حسن أو ساء. والحق أن المرء يحار في فهم أن تجيز قوة ما لنفسها ــ الجهادية السنية في هذه الحالة ــ الصدام مع ستة... أكرر ستة من القوى العالمية، كلها في آن. هم بالتحديد: الولايات المتحدة وحليفاتها الأطلسيات وروسيا والصين والهند والشيعة/ إيران وأنظمة التبعية العربية.
والبادي أنها توشك على إحراز نصر كبير في أفغانستان، لكن نفير النفور منها والعداء لها ــ روسياً وصينياً وهندياً وإيرانياً ــ سيكبّل حركتها ويقيّد فوزها بسلاسل من فولاذ، ولا سيّما إن انحصر في الساحة الأفغانية (تكفي هنا الإشارة إلى أن البشتون ــ حاضنة طالبان ــ لا يتعدون نسبة 40% من الأفغان).
لكن الجليّ أن رهانها الموازي هو في كسر قبضة الجنرالات الموالين لواشنطن على المؤسسة العسكرية ــ الأمنية في باكستان وجرفهم، مع نظرائهم من الساسة، خارج حلبة القرار الباكستاني.
والحاصل أن الشرخ الشاقولي داخل المؤسسة العسكرية ــ الأمنية بلغ أعماقاً باتت معها قطيعة الاحتراب الداخلي مسألة وقت لن يطول. على المحك هنا كيان يمفصل جنوب ووسط وغرب آسيا... يعج بشباب مسلم معبأ... يملك السلاح النووي، تراه الآن ميدان سباق بين الولايات المتحدة والجهادية السنية ممثلة ــ وسط المؤسسة نفسها ــ بحشد كبير من الجنرالات والرتب الوسطى والصغيرة مصمم على تحويل باكستان وأفغانستان إلى قلاع «إسلامية»، تردع الهند نووياً، وتفرض هيبتها على باقي المحيط، وتتكافأ بقدر أو بآخر مع إسرائيل النووية.
سيحسم مصير الساحتين عام 2009 وفق جلّ الإشارات والدلائل، مع ترجيح لغلبة الجهادية السنية مرجعه اقتناعي بأن الولايات المتحدة لن تقدر على المضي في تصعيد مواجهتها الأفغانية، بقطع النظر عن حماقة مضاعفتها لقواتها هناك، وذلك بحكم التأثير المتعاظم للأزمة الاقتصادية... أو هكذا المنطق.

الجزيرة والخليج:

مؤثر أساسي هو سعر النفط، وتجاوزه ـــــ أو قصوره عن ـــــ عتبة 50 دولاراً.
مؤثر آخر هو هبوط الفوائد المدفوعة على السندات الأميركية المشتراة، مصحوباً بهبوط سعر الدولار... أي بخلاصة تداعي الجدار الدولاري الذي تستند إليه دول المنطقة، فضلاً عن تموجات سعر النفط، أضف له اصطفاف تلك الدول خلف راعيها الأميركي خصماً لإيران النووية... ومفاعيل ذلك المرتدة على ساحاتها الداخلية، فضلاً عن بدايات عودة لروح جهادية الجزيرة السنية، وخصوصاً في ضوء علو أصوات الصراع المكتوم بين أطراف آل سعود على خلافة عبد الله وسلطان.
منجاة تلك الأسرة ــ وأخواتها ــ هي في تساوقها مع عزم موسكو وطهران على خفض إنتاج النفط ابتغاء رفع سعره، وفي اعتمادها سلة عملات للتسعير عوضاً عن وحدانية الدولار، وفي انتهاجها سياسة انفراج جادة مع إيران وسوريا. ولعل المرء لا يجد عناءً في تقرير أن تراجع القوة الأميركية هو بيقين وصفة تقهقر لتوابعها وعبّادها في الجزيرة والخليج.
نصل الآن إلى الولايات المتحدة، وثالثة الخواتم:
لن ينقضي الثلث الأول من عام 2009 إلا وعلائم القنوط ترتسم على محيّا المؤسسة بعد أن تكون قد استنفدت ما في ترسانتها من وسائل نقدية ومالية حاولت بها دفع غائلة الأزمة الاقتصادية الطاحنة ولجم أعنتها... ولكن من دون كثير طائل.
لقد ناهزت التقديمات الحكومية للمؤسسات المالية 9 تريليونات دولار، وحتى إن أضفنا قرابة التريليون سيرشّها الرئيس الجديد على جرح الأزمة في صورة برنامج تشغيل واسع النطاق لترميم البنية التحتية المتهالكة، فإن ذلك كله يتصاغر أمام انهيار جبل قوامه ألف تريليون دولار (كوادريليون) من «الروافع المشتقة»، التي روكمت عبر ربع قرن من الزيف والتزييف والنهب والاحتيال والفهلوة؟
ثمّ إنّ بنك الاحتياط الفدرالي أوصل سعر الفائدة إلى الصفر... وها هو يطبع النقود بلا سند من ذهب ولا ميزان مدفوعات متوازن ولا غياب مديونية… دون بصيص عائد، بل قد وصل به الأمر إلى شراء السندات الحكومية ذاتها (quantitative easing)، وكأني به يجرّ البلاد إلى حالة من فرط التضخم تتراكب فوق الكساد، لنصبح أمام غول من رأسين يلتهم ما أمامه ببرودة وحشية.
والعجائبي حقاً أنّ تشبّث المؤسسة الحاكمة بالمكابرة هو ــ قولاً واحداً ــ مهاد تفاقم المكابدة.
ومع المكابرة تصدح معزوفات الهوبرة hubris، بل وقل خديعة النفس قبل الغير (مثال ترديد أن معدل البطالة هو 6.7% فيما الحقيقي هو 16.5%).
لنعمل النظر في جملة أرقام تفيد المعنى: مديونية الأفراد تسبح في فلك 13 تريليوناً، أي ما يساوي مجموع الدخل القومي (الذي يقلّ عن ربع كامل المديونية الأميركية)، وما خسرته جموع المستثمرين هو 35 تريليوناً، وانخفاض أسعار العقارات بلغ 4 تريليونات، وتهافت الدولار يوشك أن يفقده هيلمان عالميته.
أبعد ذلك ما من بقايا قدرة على اجتراح حلم من حشايا كابوس، إلّا بتغيير نهج. لا مندوحة عن ذلك عندي.
والحاصل أن وتيرة الحوادث المحركة للتاريخ، لم تعد تقاس بالعقود ولا بالسنين، بل تتسارع بلهاث يخطف الأبصار ويشده العقول، لا تنفع معه محاولات الهروب للأمام، والتزويغ عن المحتوم، وتنكّب سبل تلامس تخوم الجناية (مثال التقديمات الحكومية للرأسمال المفلس، ونهب رئيس بورصة سابق لـ50 بليون دولار من أموال رأسماليين مغفلين).
مع بدايات أيّار، ستدق ساعة الحقيقة بإيقاع زاجر يفرض على المؤسسة أن تبدأ عملية التساوق مع الضرورة وأحكامها وفق نهج جديد في الداخل والخارج.
وحتى لو كفلت عملية الإنفاق الحكومي الهائلة ــ الموعودة ــ تخفيف وتيرة التداعي، فإن ذلك إبطاء موقوت لن يتأخر عن شهور معدودات، أو ما ينوف.
أمامنا عام يصح فيه وصف الحاسم بلا مغالاة ولا تزيّد، وصلت معه الولايات المتحدة ــ بل أوصلت نفسها ــ إلى آخر الخط، دونما قدرة على مواصلة الدرب بما اعتادت عليه وأدمنته من فرط لاستعمال القوة العالية الكلفة أفضى إلى نفاذ القدرة على تحمل تلك الكلفة، ومن ثم إلى استنفاد المقدرة على استعمالها (انظر مقال «المسألة الأميركية» ــ «الأخبار» عدد 12/11/2008).
حدثان شهدهما هزيع عام 2008، وهو يخلي الساح لخلفه، دلّا باليقين على مدى تداعي القوة الأميركية: 1 ــ اتفاق الانسحاب من العراق، وهو، على مساوئه، قاطع النص على انسحاب كل القوات المحتلة قبل نهاية 2011 (وهم على أية حال سيخرجون قبلها)، هذا بعد أن حوّموا في باحة أحلامهم بقواعد وتسهيلات...
2 ــ انعقاد مؤتمر قمة أميركا اللاتينية دون دعوة الولايات المتحدة للحضور، وكأنها ناقل جائحة يحسن التنائي عنها قدر المستطاع.
أصل إلى القول إنه ما زال أمام المؤسسة الأميركية الحاكمة فرصة إعادة ترتيب أوضاع بلادها، مندرجة في عمران قرن هو للإنسانية جمعاء... لا لقوة وحدها مهما بلغ شأوها أو نضب.
لكن الفرصة ليست «فيترينا» تنتقي منها إن شئت وتحجم عنها إن رغبت. إنها فرصة الضرورة التي تجود بها مراحل التحولات الكبرى في حياة الأمم، فإما أن تقتنصها وتمضي بها إلى سياقات جديدة تتواضع بالرغبة إلى مستوى القدرة، وتصلح ما بينها وبين من ناصبتهم العداء تحت مظنّات منعتها المطلقة واستثنائيتها والاحتياج إلى قيادتها وقدرها المتجلي، وإما أن تقبع في المكان الخطأ لتنتهي إلى المصير الخطأ.
والله أعلم!
* كاتب عربي