فادية حطيطضغطنا على زر الجرس وانتظرنا متأملات الجدران المحيطة بالباب وما عليها من عبارات، وأصص الزرع الموزعة بعناية على المدخل، نحمل زهوراً وهدايا في أيدينا وابتسامات مستبقة متعة لقاء الصديقات وصحبتهن. فتحت لنا الباب، وتعالت أصواتنا ما بين الترحيب والسلام والقُبل والتهنئة بولادة الحفيد الأول لصديقتنا.
امتلات الكنبات الملونة وتغير ترتيب المنزل تبعاً لجلوسنا. تختار الواحدة منا أن تجلس بجانب من اشتاقت إليها أكثر، أو من تتفاهم معها على نحو أسهل. عتمة قليلة لا تمنعها الإضاءة المنبعثة من زوايا المنزل. ورائحة ورود برية أتت بها صديقتنا من منزلها الجبلي.
وما بين المغلي الذي منع بعضنا نفسه من التهامه بسبب الريجيم وتمتعت الأخريات بطعمه وطعم التحرر من الخضوع لمعايير الضبط الجسدي، وما بين الشوكولاته والقهوة وفتح الهدايا وتخيل ما سيكون من أمرها للمولود الصغير في أميركا وتأمل صوره المرسلة بالبريد الإلكتروني والكلام عن الأبناء وعن الأحفاد، كان الوقت ينقضي رقيقاً والعتمة تضفي على الجلسة أنس النساء الكثيرات إذ يجتمعن.
ملتفات كل اثنتين أو ثلاث أو أكثر على بعضنا بعضاً، وأصواتنا تتقاطع أحياناً وأحيانا تفترق، إذا بصوتها يطلع ضاحكاً متحمساً وعابثاً في آن واحد: «ليتكنّ تحزرن من شاهدت اليوم؟» من؟ قالت إحدانا ونظرنا جميعنا نحوها متشوقات. «إنه هو بعد زمن طال أكثر من ثلاثين عاماً»، قالت ذلك وبدا لنا أننا عدنا جميعنا معها في الزمن إلى الوراء البعيد. ماذا؟ ماذا قال لك؟ كيف وجدته؟ قالت «وجدته ما زال وسيماً ودعاني للخروج معه ولكني اعتذرت». تضاحكنا وتغامزنا وعدنا صبايا صغيرات، «أخبرينا أكثر، كيف تعرفت إليه» قلنا لها. فحكت لنا أنه كان رفيقها في الجامعة وأنهما التقيا لفترة ثم ذهب كل منهما في دربه. لم نسألها عن السبب، فما أردنا منها أن تشرح بل أن تحكي. كنا نتحلق حول الكلمات تخرج من بين شفتيها مغناجة كموضوعها. حب وغزل ونساء متزوجات وأمهات وجدات، ولقاء من غير موعد. تكلمي. تكلمي بعد. احكِ لنا عنه، عنك، عن العشق، وعن عمر ما زال فتياً على الرغم من السنوات. وهي كانت تحكي.
امتد الصوت لصديقتنا الأخرى فقالت «أما أنا، فعرفت اليوم أن حكاية جرت بعيداً عني مع أنني كنت بطلتها»، دهشنا «هل من حكاية تجري من غير أبطالها؟». قالت: « تعرفت إليه، وأثار إعجابي. سألت عنه فأخبرتني صديقتي أنه هو نفسه كان قد شاهدني مرة منذ زمن بعيد في الجامعة وقال أريدها. فراح يسأل عني وعرف أن الأمر غير ممكن فأحجم» . تعالت ضحكاتنا وهمساتنا. أيكون لكل منا حكاية لا تعرفها، نسجت خيوطها في الغيب ثم ذابت؟
لملمنا ضحكاتنا وأصواتنا وسحبنا أنفسنا من المكان الدافئ وقمنا نودع صديقتنا التي صارت جدة. خرجنا من الباب وكل منا تحمل احتمال حكاية جميلة لن تخبرها لأولادها ولا لأحفادها. بعض الحكايات هي فقط للصديقات.