علي القاسمي *منذ تأسست إسرائيل، وهي تقترف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية سنة بعد أخرى، وترتكب المذابح الهمجية في جميع أرجاء المنطقة: بلدة الشيخ (1947)، قرية سعسع في الخليل ودير ياسين وقرية أبو شوشة واللد (1948)، وقرية قبية (1954)، وقرية قلقيلية ومخيم خان يونس (1956)، ومدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية في مصر (1970)، وصبرا وشاتيلا في بيروت (1982)، والحرم الإبراهيمي في الخليل (1994)، وقانا في جنوب لبنان (1996)، ومخيم جنين (2002)، وقانا الثانية (2006)، وآخرها مجازر غزة (2008 ـــــ 2009) التي راح ضحيتها أكثر من 1500 شهيد وأكثر من 5000 جريح من المدنيين الأبرياء جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ.
ورغم كل هذه المجازر، فإن أياً من حكام إسرائيل لم يُسَق إلى محكمة وطنية أو دولية، وذلك بفضل الدعم الأميركي والأوروبي في المحافل الدولية، وخوف السياسيين من تهمة معاداة السامية، وكيل الغرب بمكيالين في قضايا حقوق الإنسان، وتقاعس الدول العربية عن السعي إلى محاكمتهم.
هناك ثلاثة أنواع من المحاكم الدولية:
أولاً، محكمة العدل الدولية: وهي الجهاز القضائي الأساسي لمنظمة الأمم المتحدة. واتخذت من لاهاي في هولندا مقراً لها. وتختص هذه المحكمة في النظر في النزاعات التي تقع بين الدول، وترفعها إليها الدول المعنية. وتتألف المحكمة من 15 قاضياً من جنسيات مختلفة تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لمدة 9 سنوات. وقد سحبت الولايات المتحدة اعترافها بالسلطة القضائية الإلزامية لهذه المحكمة.
ثانياً، المحكمة الجنائية الدولية: على الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي التي دعت إلى إنشاء هذه المحكمة، فإنها ليست جهازاً من أجهزة منظمة الأمم المتحدة، بل هي هيئة دولية مستقلة دائمة. وتختص بمحاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. وقد وقّع على ميثاق هذه المحكمة 105 دول. ورفضت أميركا وروسيا والصين والهند التوقيع على هذا الميثاق، ثم وافق الرئيس بيل كلينتون على التوقيع على ميثاقها «للدخول في اللعبة والتأثير على أنشطة المحكمة» مع التحفظ المتعلق بعدم محاكمة الجنود الأميركيين المتهمين بجرائم حرب.
ثالثاً، المحاكم الدولية الخاصة: وهي محاكم خاصة ظرفية مؤقتة يُنشئها مجلس الأمن الدولي لمحاكمة مسؤولين متهمين بجرائم الإبادة والتطهير العرقي أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية. ومن أمثلتها المحكمة الدولية الخاصة التي ألّفها مجلس الأمن الدولي للنظر في جرائم الحرب المرتكبة في يوغسلافيا السابقة سنة 1993، والمحكمة الدولية التي ألّفها لمعاقبة المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية في راوندا سنة 1995. إن تحديد الجرائم منبث في القانون الدولي، وفي قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وفي الاتفاقيات الدولية كاتفاقيات جنيف، وخاصة الاتفاقية الرائعة التي تحمي المدنيين في أوقات الحرب، وفي النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ العسكرية الدولية التي مثل أمامها قادة ألمانيا النازية، وفي نظام روما التأسيس للمحكمة الجنائية الدولية. وبصورة عامة، فإن هذه الجرائم تشتمل على الأفعال المحظورة دولياً، وخاصة عندما ترتكب في نطاق هجوم واسع أو منهجي على مجموعة من السكان المدنيين.
وتتضمن هذه الأفعال جرائم القتل العمد، والإبادة، واستخدام أسلحة محظورة دولياً، والتعذيب، والاغتصاب، وكذلك الجرائم التي تمس بالحرية البدنية للمدنيين أثناء الحرب كالسجن والحرمان الشديد، وإبعاد السكان أو النقل القسري، وكذلك تلك الجرائم المرتكبة على أساس التمييز العنصري مثل الاسترقاق، والاضطهاد، والفصل العنصري.
ويعرّف نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية منطوق «الإبادة» بالمفهوم الآتي: «الإبادة: إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يُقصد بها إهلاكهم الفعلي كلياً أو جزئياً». وكذلك «إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة»، كما ينص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3 (د ــــ 1) الصادر بتاريخ 13/2/1946 على أن الجرائم ضد الإنسانية لا تقتصر على قتل المدنيين أثناء الحرب فقط، بل تشمل أيضاً «انتهاك حقوق سكان البلاد الأصليين الاقتصادية والسياسية، وسياسة الفصل العنصر من ناحية أخرى، باعتبارهما جريمتين ضد الإنسانية».
وقد وقع الإجماع أخيراً، حتى في العديد من المؤسسات الغربية، على إن إسرائيل ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في عدوانها الأخير على أهل غزّة. وهنالك العديد من الجمعيات الحقوقية الدولية، وجمعيات غير حكومية وطنية، وبرلمانيون أوروبيون، وصحافيون، وناشطون في المجال الإنساني، أعدوا تحقيقات وتقارير موثقة تدين قادة الكيان الصهيوني. فقد كان قصف إسرائيل للمدارس، والجامعات، ودور العبادة، والمدنيين العزل، ومقرات الصحافيين، وقوافل الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، وسيارات الإسعاف، وتهديدها للمستشفيات وأمرها بإخلاء المرضى، من الأمور الواضحة الموثقة. وسنعرض بعجالة لبعضها:
1 ــــ استخدام الفوسفور الأبيض في المناطق الآهلة بالمدنيين. والفوسفور الأبيض ليس محظوراً دولياً، ولكن يُمنع استعماله في المناطق الآهلة بالمدنيين. وقد استخدمته إسرائيل في غزة. وبحثت منظمة العفو الدولية التي تتخذ لندن مقراً لها، هذا السلاح الإسرائيلي وأسلحة أخرى محظورة استعملتها إسرائيل في عدوانها على أهل غزة المدنيين. وهذا ما أيده رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر جيكوب كيلنبرجر إذ قال عند زيارته لمستشفى الشفاء في غزة: «لم أرَ آثار رصاص في أجسام الأطفال القتلى والمصابين»، وهو يشير بذلك إلى تحريم ضرب المناطق الآهلة بالسكان بالأسلحة الثقيلة.
وقد أنكرت إسرائيل أول الأمر استخدامها الفوسفور الأبيض، ثم اعترفت به عندما ظهرت الأدلة وألقت اللوم على مجموعة عسكرية معينة قالت ستحقق معها، ثم زعمت أنها لم تنتهك القانون الدولي عندما استخدمت الفوسفور الأبيض.
2ـــ مجزرة مدرسة الفاخورة في جباليا: تشبه هذه المجزرة في تخطيطها وتنفيذها مجزرة قانا التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في قرية قانا اللبنانية بتاريخ 18/4/1996 وقتلت 109 من المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء. فلكي يقتل الجيش الإسرائيلي أكبر عدد من المدنيين بأقل عتاد وأقصر وقت، فإنه ينذر السكان بإخلاء بيوتهم وإلا تعرضوا لموت محقق. وعندما يهرع السكان ويلجأون متجمعين في مكان يبدو لهم آمناً، يقصف الجيش الإسرائيلي ذلك المكان ويقتل أكبر عدد منهم دفعة واحدة. وفي مجزرتي قانا والفاخورة، زعم الإسرائيليون أن البناية كانت تضم مقاتلين، لكن الأمم المتحدة كذّبت مزاعمهم.
وعلى كل، فإن إسرائيل تحتقر الأمم المتحدة التي أنشأتها. ففي اليوم الذي كان فيه بان كي مون يجتمع مع قادة إسرائيل في محاولة لتنفيذ قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في غزة الذي لم تلتزم به إسرائيل، قصفت قواتها قافلة الإغاثة التي تحمل علم الأمم المتحدة.
3ـــ قصة المدرسة الأميركية في غزة: كنتُ أتابع نشرة أخبار الفضائية «سي أن أن» مساء يوم 23/1/2009، عندما أثار دهشتي مراسل الفضائية في إسرائيل، بِن وفرمان، الذي يعيش في المنطقة منذ 15 عاماً ويجيد اللغتين العربية والعبرية. فقد أرسل تقريراً مصوراً عن المدرسة الأميركية في غزة. وكان هذا المراسل قد بعث قبل سنتين تقريراً عن هذه المدرسة صوّر فيه البناية الجميلة والتجهيزات الجيدة للمدرسة، وقال فيه إنه على الرغم من أن المدرسة كانت لمساعدة أبناء اللاجئين الفلسطينيين، فإن تلاميذها المئتين هم من العوائل الميسورة نسبياً التي في مقدورها تسديد الأجور الدراسية البالغة ثلاثة آلاف دولار سنوياً.
في تقريره الثاني، وقف أمام مكان المدرسة التي طالها القصف الإسرائيلي ودمّرها تماماً وأحالها إلى مجرد ركام. وأكد هذا المراسل أن المدرسة لا علاقة لها بتاتاً بأي نشاط حربي، وأن القصف الجوي ليلاً أدى إلى مقتل حارس المدرسة. ثم وقف هذا المراسل أمام ربع جدار مهدّم ولكنه يحمل قطعة تدشين الافتتاح، وقرأ كلماتها التي تقول إن تلك المدرسة بُنيت بأموال الشعب الأميركي.
يا سيدي المراسل، إن السؤال الأصعب هو: كيف تفهم توفيق بلادك بين دفاعها عن حقوق الإنسان، واستخدامها الفيتو أكثر من 40 مرة لمنع مجلس الأمن الدولي من التنديد بمجازر إسرائيل وجرائمها ضد الإنسانية؟
مَن يقيم الدعوى ضد إسرائيل؟
إنّ المحكمة الدولية المختصة في الوقت الحاضر التي يمكنها النظر في جرائم إسرائيل ضد الإنسانية في غزة، هي المحكمة الجنائية الدولية. ويمكن أن تقدَّم الدعوى إلى أحد الأطراف الثلاثة الآتية: مجلس الأمن أو المدعي العام للمحكمة (وهو اليوم الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو) أو سلطة البلد المعني.
ولما كان احتمال قيام مجلس الأمن بالدعوى منعدماً، واحتمال رفع المدعي العام للمحكمة الدعوى ضد إسرائيل ضعيفاً، فإن الطريق الأمثل هو رفع الدعوى من جانب السلطة الفلسطينية، والحكومة المصرية (لأن المدنيين في مدينة رفح المصرية قد أُجبِروا على ترك منازلهم ووقعت إصابات بينهم نتيجة القصف الإسرائيلي). وأقترح أن ترفع جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي الدعوى كذلك باسم جميع الدول العربية والإسلامية.
ولكن خبراً بثته فضائية «الجزيرة» أثار حيرتي، ومفاده أن مجموعة من الأطباء النرويجيين جمعوا أدلة طبية وعلمية تدين إسرائيل باقتراف جرائم ضد الإنسانية في عدوانها على غزة، واتصلوا برئاسة السلطة الفلسطينية من أجل التحدث إلى الرئيس الفلسطيني أبو مازن، غير أن الرئيس رفض التحدث إليهم!
* كاتب عراقي مقيم في المغرب