يهجر معظم الشباب الأرياف التي ولدوا فيها وينزحون إلى المدينة بحثاً مهن مختلفة في مجالات جديدة، أكثر ربحية وسهولة من تلك التي مارسها آباؤهم. لم تكن هذه حال موريس حبيب، الذي أكمل مشوار والده في تربية النحل
هاني نعيم
بدأ موريس حبيب منذ بلوغه 16 عاماً، بمساعدة والده في إنتاج العسل. هذه المهنة التي عمل بها الوالد منذ عام 1945 حتى وفاته عام 2000، ورثها الابن عن طيب خاطر واستمر بمزاولتها حتى الآن.
لا يخفي موريس أنه عانى في البدء من هذه المهنة، حتى أنه كرهها. ولكن، بعد مرور عشر سنوات، بدأت نظرته تتبدّل شيئاً فشيئاً، لينسجم مع مهنة أصبحت «هويّته» في ما بعد كما يسمّيها، وخصوصاً بعد مرور ثلاثين عاماً على عمله بها. خلال كل تلك الأعوام، تعلم أن يتآلف معها ويقدّرها، فقرأ كثيراً عن النحل وعن العسل وفوائده. تعلّم من أسلوب حياة النحل النظام وطبّقه على حياته، وآمن بفوائد العسل وبدوره الوقائي ضد الكثير من الأمراض. لم يثنه زواجه عن إنتاج العسل، كما أنه لم يدفعه للبحث عن مهنة أخرى أكثر تقليدية. فقد استطاعت هويدا، بدورها، التأقلم مع النمط الجديد لحياتها، وأصبحت تساعده في المواسم، كما تدير منفذ البيع الذي يمتلكانه في منطقة الجديدة.
لدى موريس وهويدا 250 قفيراً للنحل، تنتج كل أنواع العسل الممكن إنتاجها في المناخ اللبناني، وهي تتوزّع على ثلاثة مواسم في السنة: عسل الربيع، وعسل الصيف، والعسل التشريني.
يُنتج عسل الربيع في أوائل آذار ويُقطف أواخر نيسان، في موسم الليمون. حينها، يحمل موريس وزوجته قفران النحل ويتجهان نحو الساحل الجنوبي. هناك، في قرى الزراريّة وأبو الأسود ووادي النبطيّة، يتّفقان مع المزارعين على إيداعها في بساتينهم، لأن النحل يكون كثير الإنتاج خلال هذا الفصل، إذ يمرّ بمرحلة الخصوبة. بعدها، يقوم الزوجان بزيارة القفران مرة كل 6 أيّام تقريباً، لزيادة الشمع والتطريد، الذي يقضي بمنح الملكة والنحل قفراناً جديداً للتكاثر. أما أبرز نوعين من العسل الربيعي، فهما عسل «زهرة الليمون» وعسل «زهرة الكينا».
يتميز «عسل الليمون» بغناه بالفيتامين B وC، ينصح به لمرضى الروماتيزم، والرشح، بينما يفيد عسل «زهرة الكينا»، الذي يُقطف أواخر أيار، «من يشتكون من حساسية بالحنجرة، كما أنه يمنح الجسم مناعة ضد مرض الملاريا، إضافةً إلى أنه منشّط للذاكرة»، كما يقول موريس.
يقضي الزوجان مواسم العسل بين مختلف المناطق اللبنانية.
ففي أواخر حزيران، ينقلان القفران في شاحنتهما، إلى المناطق الوسطى الكثيفة بغابات السنديان، كالمتن وكسروان والشوف، لكون هذا العسل يستخرج من «صمغ» ورق السنديان، قبل أن تضاف إليه زهرتا الزعتر والقصعين اللتان تتفتحان في هذا الموسم. يسمّى هذا العسل الصيفي بـ«عسل الندوى» ويقطف في منتصف تموّز.
ويتميز عسل الندوى بغناه بمواد حديديّة لا يمكن لجسد الإنسان أن ينتجها بنفسه، معروفة بدورها في تليين الشرايين وتنشيط عضلات القلب وإدرار البول، ما يمنع تراكم الشحوم في الدم.
أمّا العسل التشريني، فإنتاجه يبدأ من 15 آب وينتهي في 15 أيلول عند قطافه. ينتج هذا الصنف من جميع الأشواك البريّة، المنتشرة في أعالي جبال لبنان، كاللقلوق، الباروك، وصنّين، كشوكة الشنداب والقرص عنّة، وعسل الأرز. وهو غنيّ بالبروتين والأملاح، يلعب دور منشّط عام وخاصة للذاكرة، كما يفيد مرضى فقر الدم، كما يمكن وصفه للرياضيين.
يروي موريس أن حياته سلسلة من الرحلات والتنقلات بين المناطق، يقوم بها، هو ورفيقته، مستمتعين، رغم «المغامرات» التي يتعرضان لها، وخصوصاً خلال فصلي الربيع والصيف، حين يكرّسان كل وقتهما للنحل، بينما يستغلان الفصلين الآخرين للراحة.
ففي إحدى الليالي، خلال نقل القفران، تعطّلت بهما الشاحنة في وادي نهر إبراهيم. أصرّ موريس على إصلاحها بنفسه، مستخدماً مصباحاً صغيراً كان بحوزته، لكن من دون تذمر ولا توتر، فهما يستمتعان بوتيرة عملهما الصعبة مهما جلبت من مشاكل، رغم آلاف اللسعات التي تعرّضا لها، ولا يزالان، دائماً.
أكسبت هذه المهنة موريس حباً للطبيعة، وقرّبته منها، فهي «صديق الإنسان، تريحني كثيراً». أما النحل، فهو «كريم مع الإنسان، لا يزعج، يقوم بالعمل ويعود لبيته مسالماً»، مشيراً إلى أنّ النحلة تقضي الأيام التسعين التي تعيشها حداً أقصى، وهي تعمل من دون توقّف. بدأ الزوجان منذ أربعة أعوام، بالمشاركة في معارض خاصّة بالمونة اللبنانية، ما أدى إلى تعريف سكّان المناطق على إنتاجهما، وتسويقه. اليوم، أصبحا يتلقيان «التوصية» قبل المواسم، على كميّات معيّنة من العسل.
ثابرت هذه العائلة على تطوير مهنتها، فنجت من «التمدّن الذي أفقد الإنسان علاقته بالأرض»، لتحافظ على مصدر يؤمن الرزق بموازاة التواصل الدائم مع الطبيعة.