أنسي الحاج
صباحكم خير

نودّ لو نقول هذا الصباح ما يُفرح، فماذا نقول؟
الحياة لا الذاكرة.
التدفّق لا الانكفاء.
... والحياة، هذا التدفّق، قد يميل انكفاءً تحت وطأة، والذاكرة تدفع بالحياة إلى الأمام كما قد يدفع بها التوق إلى الوراء.
الحياة تستحقّ من الحيّ أن يتحمّل العالم. سهرةُ الغد، حفلة غناء الليلة، رحلة الشهر المقبل، وعد الصبيّة، شوق الرجل، انتظار عرض هذا الفيلم أو صدور ذاك الكتاب.
الحياة مع الذاكرة، التدفّق مع وقفاته، كما في هذه الموسيقى، كما في هذا المسرح، الحياة تُعْبَد لأنّها طفلة ومراهقة، صبيّة على الدوام.
نودّ لو نقول هذا الصباح ما يُفرح، فماذا نقول؟
ماذا غير الإصغاء إلى الغناء وتلبية النداء؟ غير التشبّه بهذا العزف، بهذا الإنشاد الذي يمسح الغبار عن العمر، غير السباحة تحت انهمار شلاّل الأبد الراقص، الأبد المفرقع، الأبد المغرورق بدموع نشوتك؟ نبيذ العسل يَقْطر من التلال المنفتحة على هدنة الوقت وهجوم الجَمال، من جبال المسك والعنبر، من نورِ صدر الأرض ووجه السماء... ماذا غير الإصغاء إلى الغناء وتلبية النداء؟
ادَّخِر أحزانك حتّى تنفجر فرحاً!
اتّحد بما يُخْرِجك!
بما يَنْخلع له قلبك!
بما يَنْقلك، ويَضْمحلّكَ، ويخطفك، اتّحد الآن، فلا تتكرّر لمسة السحر ذاتُها...
صباحكم خير أيّها المصلوبون على مشاعرهم، أيّها المُغنّى لهم، المفكَّر فيهم، وغير المُكترَث بهم إلى ما بعد غياب الغياب...
صباحكم خير يا مَن تقع ومَن لا تقع عيونهم على الحبر والورق، أيّها المنكوبون بنبوءات الشؤم، يا فرائسَ الخطب والكتابات والسِحَن المقلوبة، يا ضحايا الأبطال والقادة والإذاعات والشاشات في الصحف والجيران والأصدقاء.
صباحكم خير ذات يوم، صدّقوا الأولاد، لا تصدّقوا غير الأولاد،
ليحملْكم الأولاد على أكتافهم!...


كيف يكونان؟

الانشطار عند المؤلفين بين دكتور جيكل ومستر هايد لم يتوقّف عن طرح أسئلته عليّ. ازدواجيّة تتلبَّس وحدة الذات أم وحدة الذات خرافة وثمّة دوماً ازدواجيّة؟ قد لا تكون بين خير وشرّ وقد تقتصر على ثانويّات ولكن أمرها هنا غير مهمّ، ونحن نتحرّى عن المهمّ: أن يكون المؤلّف مؤذياً خبيثاً في سيرته الشخصيّة، وصانع جمالٍ على خلفيّة مثاليّة أو طوباويّة شديدة التأثير عريضة الجمهور.
هل هما شخصان متضادان أم شخص واحد ذو بُعدين؟ لنقلْ: مثل السماء والأرض؟ أليسا جزءاً من الكون، به وفيه يجتمعان كما يجتمع الماء والنار في العناصر؟ كان المرض ينهش نيتشه ونيتشه ينهش العالم. مَن كان يراه في غرفته الباردة خجولاً محموماً وحيداً متروكاً ما كان ليصدّق أن هذا المعتلّ هو نفسه عملاق التألّه حفّار قبور العصور نحّات العقول الآتية. ذلك الصراخ المتوحّش في ذلك الهيكل المصاب. كيف يكونان؟ كيف يصدر نورٌ من ظلال متعاركة وتتساكن حرب وسلام؟
اثنان ثلاثة أربعة... كم عدد المؤلّف؟ وهل حقّاً نريده واحداً؟ واحداً، وما في الوجود إلاّ كائنات بلا نهاية؟
هو الغنى والخصب ما يخيفنا في المؤلّف المزدوج الشخصيّة، لأنه ينكأ فينا جرح إمكان أن نكون نحن أيضاً على مثاله، وربما هو أكثر من اثنين، وربما نحن أيضاً، أو ننطوي على حَسَدنا منه انطواء الحرمان على هزيمته.


المفكّر لا المثقَّف

أن تنهل الثقافة من خلال طبيعتك، فتصبح جزءاً منك لأنك في الأساس أنت جزء منها. انصهار متواعدَين. الذين يستشهدون بثقافتهم في كل مناسبة يستعملونها كاستعارة. غالباً لا تَصْلح. غالباً للتعويض عن غياب الجهد، والاكتفاء بثقافة الإشاعة. غالباً لصَرْع القارئ والمُشاهد بمراكمة المرجعيّات. هذا النوع هو المثقّف الاستعراضي، ثري حرب المعلومات. المثقّف (الشاعر والناقد والفيلسوف) يُطلّ من الثقافة كما تطلّ الثمرة من التراب وقد رَوَتها زبدة أجيال أرضٍ تعرف أبناءها. الآخر، الذي يسرد أسماء العَلَم ويعرض معلوماته، فقير، مهما تخيّل أن شجرة عائلة المثقّفين تشدّ أزره. عائلة المثقّفين تورث مَن ينجح في امتحانات تشبه امتحانات طلاّب السحر والعرافة والتنجيم في العصور الوسطى بل في ألفيّات ما قبل المسيح. لا يتخرّج إلاّ مَن تصبح الأسرار، لا العناوين، جارية فيه مجرى دمه. الثقافة، المعرفة، لا تقيم كبير وزن لمواكبة الإعلام.
إنها تسبقة، وليست أصلاً في وارد السباق بل في صميم المعنى. في صميم التماهي والتجرّد معاً. طقوسها مَلَكيّة كونيّة وسعادتها في حقيقتها مهما طال احتجابها أو تغييبها. لكنّ الثقافة في الحقيقة كلمة خاطئة حلّت في غفلة العقل محلّ كلمة فكر. المفكّر لا المثقّف. المثقّف متعلّم مجتهد في تحصيل المزيد من المعارف والمعلومات وقد يحمل شهادة تجعله أرقى من تلميذ البكالوريا. أن يتباهى امرؤٌ بأنه مثقّف كأن يتباهى فلاّح بأنه يعرف أن يتجوّل في المدينة. المَرْجع هو الفكر، ويجب أن لا نطلق صفة مفكّر على رجال سياسة، كما يحصل حالياً. صفة المفكّر تنطبق على قلّة معظم أفرادها فلاسفة وأدباء ومؤرخون ومربّون تقع دائرة اهتمامهم بين الأخلاق والماورائيات والفكر السياسي والاجتماع والدراسة الأدبيّة الفائضة عن حدود النقد التقليدي. المفكّر شيء من حكيم وشيء من أديب وشيء من كاهن. في مصر نماذج عديدة. كذلك في سوريا والخليج والمغرب العربي. في لبنان جبران ونعيمة وأنطون سعادة وميشال شيحا وشارل مالك وخليل رامز سركيس وكمال يوسف الحاج وجورج خضر وعلي حرب وغيرهم. اليوم يكثر أهل الفكر وتشتدّ جرأتهم وقد تضعف لغتهم. وجميعهم، على جسارتهم، يلزمهم مزيد من الحريّة في التصدّي للموضوعات وفي التعبير عن الرأي. وهذا هو الموضوع، لكنه موضوع آخر.
أعطيَ المفكّر أشكالاً لا تمثّل الواقع بل تصطنع هيئات وأوضاعاً احتفالية سخيفة، وأبرزها التمثال الذي نحته أوغوست رودان وسمّاه «المفكّر»، وقد كوَّمَ رأسه بين يديه كأنه يعتصره. سخر سلفادور دالي من هذه المنحوتة وسدّد إليها تشبيهاً من أقذع ما يكون. ولعلّ ممّا يُرَدُّ به على مثل هذه التمثيلات المحنّطة للمفكّر ما كتبه أراغون: «نفكّر انطلاقاً ممّا نكتب وليس العكس». أي إن الكلمة تسبق الخطة. لعلّ فيها مبالغة، وما المانع، لكنّها صادقة في رفضها نظرية سيادة الفكر المجرّد على الكتابة المجسّدة (أو الرسم أو التلحين إلخ...)، وفي توكيدها الضمني لأسبقية التعبير على الفكرة. وهذه من مبادئ السورياليّة، لولا أن السوريالي الأول، أندريه بروتون، عاد فانحنى أمام حركة الفكر معتبراً أن لا أعظم منها. والمغزى أن النظريتين تتلاقيان تارة بطغيان هذا وطوراً بطغيان ذاك وأحسن ما يكون في انصهار الطاقتين فلا خصام ولا تعصّب إيديولوجي.
«أحياناً أفكّر، وأحياناً أكون» يقول فاليري متلاعباً بعبارة ديكارت «أُفكّر، إذاً أنا موجود». لكنّنا هنا حيال مبالغة مفكّر مصمّم على المخالفة، ولا مانع، لولا أن التفاصيل تخالف المخالفة. مثلاً: في حالة فاليري يستبدّ الوعي حاداً كقرص الشمس، فكيف له أن يكون كينونة تُغيّب الفكر؟ بل هو العكس بالأحرى، على ما تؤكد كتاباته.
وتبقى جملة شاتوبريان من أجمل ما قيل: «لعلّ الإنسان هو فكرةُ الجسد الكبير الذي هو الكون».


عابرات

وحدة
تحت صورة الجَدّ
كانت العائلة / تواصل حياتها
في قرنٍ آخر.

■ ■ ■

النساء
(مقتطف)
الشبيهات بالسكّر
حين يذوب كلّ صباحٍ
في فنجان القهوة.
حين يَضَعْنَ الحظّ في حياتنا
بعد أن نمضي...
اللواتي يعبرنَ فجأة
تاركات دخاننا بلا نار
جهدَنا الضائع
في سَحْلِ أنقاضنا من قلوبهنّ.

■ ■ ■

تشبيه
(مقتطف)
غريبٌ كريحِ السَّروِ بين السنديان
خائبٌ مثل عَلَم يَضْحك
فوقَ بلادٍ حزينة!

حسين بن حمزة
(من «رجل نائم في ثياب الأحد»)