يمثّل العنف حدثاً يومياً في الشرق الأوسط، فتولّد آثاره تحدّياً مستمراً للنظام العالمي وللمفاهيم الأساسية للعدالة. فحوى هذا المقال أنّ مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة يتحملان مسؤولية أساسية عن هذا النوع من الخلل تحديداً. وهنا نموذجان: إنشاء محكمة مقاضاة قتلة رفيق الحريري، والعملية القضائية التي اتُّبعت في مقاضاة صدام حسين
داود خير الله *
اتهم المسؤولون الأميركيّون ووسائل الإعلام، صدام حسين بارتكاب جرائم شنيعة وجرائم ضد الإنسانية قبل تاريخ 11 أيلول / سبتمبر 2001 واجتياح العراق في 2003 بزمن بعيد.
فقد اتُّهم صدام بأنه كان يشن حروباً عدوانية على الدولتين المجاورتين له، إيران والكويت، وأنه كان يدفن ضحاياه في مقابر جماعية، وأنه كان يستخدم أسلحة دمار شامل محرّمة ضد شعبه حتى. وكمرتكب جرائم ضد القانون الدولي ـــ أي ضد الإنسانية جمعاء ـــ جسّد الحاكم العراقي الأسبق المرشح المثالي للمحاكمة أمام محكمة دولية.
كانت مشروعية اجتياح الولايات المتحدة العراق موضع تساؤل، وهذا أقل ما يقال، ليس في المحيطين العربي والإسلامي فقط، بل أيضاً في العالم أجمع. وإذا لاح طيف مشروعية للاجتياح أو تبرير له باعتبار أنه كان دفاعاً وقائياً عن الذات في بداية الحرب، تبدّد هذا الطيف بعدما فشلت الولايات المتحدة في العثور على أسلحة دمار شامل أو على صلة بين القاعدة ونظام صدام.
لقد كافحت الولايات المتحدة، عبر التاريخ، من أجل تصوير نفسها المؤيدة لسيادة القانون الدولي، لا سيما في خلال الحرب الباردة، لكن إدارة بوش الحالية تخلت عن هذا الدور. وتشهد على ذلك معارضُتها المحكمة الجنائية الدولية، والجهود التي بذلتها للاستمرار في رفض التوقيع على بروتوكولات اتفاقية جنيف الملحقة بها عام 1977 والمتعلقة بحماية ضحايا النزاعات المسلحة، ورفضها دعم بروتوكول كيوتو والعديد من المعاهدات المتعددة الأطراف، ولجوئها إلى استخدام القوة في العراق من دون صدور قرار من مجلس الأمن الدولي، وهو الجهاز الدولي المنوط به أساساً مسؤولية الحفاظ على السلام والأمن الدوليين.
نظراً إلى نزعة إدارة بوش إلى التفرد بالقرارات، تُعدّ الولايات المتحدة، عن حق، بالنسبة إلى العرب وحتماً سائر العالم، المحتل الأول للعراق وقائدة «تحالف الراغبين» فيه. وعلى هذا الأساس كانت الولايات المتحدة تُعدّ، وعن حق أيضاً، أنها تتمتع بالسيطرة الكاملة على العملية القضائية التي تحدد درجة الإنصاف والموضوعية وعدم التحيز المرتبطة بمحاكمة صدام حسين.
وقد مثّل ذلك طبعاً فرصة ذهبية لهذه الدولة لكي تُظهِر التزامها سيادة القانون الدولية والمبادئ الأساسية للعدالة.
بعد مدة قصيرة من إلقاء القوات الأميركية القبض على صدام، عبّر مسؤولون أميركون، ومن بينهم بوش، عن تأييد مطالب العراق بأن يُحاكِم الشعب العراقي صدام محلياً. وفي الإجراءات القانونية التي تلت، استمرت الولايات المتحدة بتولي زمام الأمور، فأدّت دوراً أساسياً بالإجراءات القضائية التي انتهت بإعدام صدام.
أي نظام قضائي كان يجب أن ينظم محاكمة الرئيس العراقي المخلوع؟ ومَن كان يجب أن يحاكمه، ووفقاً لأي قانون؟
هل كان العراق يملك صلاحية محاكمة حاكمه الأسبق؟ وهل تلبي محاكمة صدام مستلزمات العملية وفق الأصول؟ وهل عزّزت مفهوم الإنصاف في العالم العربي وفي سائر المجتمع العالمي؟ تلك هي الأسئلة التي سأعالجها في ما يلي.
الشك ضئيل في عدم امتلاك العراق الصلاحية الأولى لمحاكمة الحاكم العراقي الأسبق. فمعظم الجرائم التي نُسبت إلى صدام ارتُكبت في العراق وبحق الشعب العراقي. والصلاحية في القانون الجنائي هي محلية أولاً (أي حق الدولة حيث ارتُكبت الجريمة)، وبشكل بديل شخصية (أي الدولة التي تنتمي إليها جنسية الضحية أو المتهم)، ودولية بالنسبة إلى بعض الجرائم (لا سيما في ما يتعلق بالجرائم الدولية مثل جرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية، حيث يحدث انتهاك خطير للقانون الإنساني الدولي).
إذاً يمتلك العراق حتماً الصلاحية لمحاكمة صدام حسين. ولكن العراق كان بلداً محتلاً في ذلك الحين، أي ليس بلداً حراً بنظر القانون الدولي. وكان للاحتلال العسكري تبعات خطيرة جداً في ما يتعلق بكل من العملية القضائية والقانون المرعي الإجراء. ففي ظل الاحتلال العسكري، هل تنجح مثل هذه المحاكمة التي تجريها محكمة عراقية في امتحان الإنصاف كما هو منصوص عليه في الاتفاقات الدولية وكما تمارسه الأوطان المتحضرة؟ فقط إذا أمكن تجاوز عقبات جدية يفرضها القانونان العراقي والدولي.
إنّ المادة 40 من الدستور العراقي، الذي كان لا يزال معمولاً به عندما أصبح الرئيس العراقي المخلوع في عهدة الولايات المتحدة، تنص على أن «رئيس مجلس قيادة الثورة، ونائب الرئيس والأعضاء يتمتعون بحصانة تامة». حتى ولو كان هذا الدستور، الأعلى في هرمية القوانين في العراق، كما هي الحال في معظم الدول، قد غُيِّر لاحقاً (كما حصل)، لا يمكن تطبيق الدستور الجديد بمفعول رجعي، وخاصة في ما يتعلق بالأعمال الجرمية. ولكن في ما يُلزم الدستور العراقي النظام القضائي العراقي، لا يملك سلطة مشابهة على محكمة دولية يوجهها القانون الدولي، وهو مبدأ يتجلى بوضوح في حالات يتعارض فيها القانون المحلي مع القواعد والمبادئ الراسخة المتعلقة بالعدالة الجنائية الدولية.
العقبة الثانية التي لم يكن بإمكان قوات الاحتلال التغاضي عنها، هي أهلية النظام القضائي العراقي وعدم تحيزه. فوفقاً لسلطة التحالف المؤقتة وتقارير الأمم المتحدة، كان النظام القضائي القائم في ذلك الحين، يتطلب إصلاحاً كبيراً قبل أن يتمكن من النظر في قضية معقدة مثل محاكمة صدام وآخرين ينتمون إلى نظامه. بالإضافة إلى ذلك، لا يعقل أن تكون سلطة التحالف المؤقتة تجهل أن العضوية في حزب البعث العراقي كانت شرطاً مسبقاً للتدرج القضائي في ظل النظام السابق. وبالتالي، ما كان القضاة البارزون وذوو الخبرة، الذين عينهم نظام صدام وخدموا في عهده، ليتمتعوا بالأهلية بنظر سلطة ملتزمة باجتثاث البعث من كل المؤسسات العراقية.
بالإضافة إلى ذلك، اتُّهم الحاكم العراقي المخلوع بجرائم دولية مثل الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم لا يغطيها القانون الجنائي العراقي ولا النظام القضائي، كما لم يحصل القضاة على أي تدريب أو خبرة في التحقيق في مثل هذه الجرائم المعقدة ومحاكمة مرتكبيها.

وجهان للعدالة المشوّهة لتبرير التدخّل بشؤون داخليّةأقامت سلطة التحالف المؤقتة، التي ترأسها ممثل عن الحكومة الأميركية، مع الجهاز الذي عينته، وهو مجلس الحكم العراقي، محكمة خاصة بالعراق لمحاكمة صدام وشركائه. وأنشئت المحكمة العراقية المختصة بالجرائم ضدّ الإنسانية بعدما تبنى نظامَها الأساسي، مجلسُ الحكم العراقي في 10 كانون الأول/ديسمبر 2003ووفق هذا النظام الأساسي، تشمل صلاحية المحكمة مزيجاً من الجرائم المحلية والدولية، وتندرج ضمن الأخيرة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
لا يتضمن النظام الأساسي، كما جرى تبنيه، إلا أحكاماً قليلة تتعلق بالمشاركة الدولية. وتنص المادة 28 على أن «القضاة وقضاة التحقيق والمدعين العامين ومدير القسم الإداري يجب أن يكونوا من المواطنين العراقيين».
وفي مراعاة واضحة للمصالح الأجنبية، تنص المادة 4 (الفقرة د) على أن لمجلس الرئاسة، تعيين قضاة غير عراقيين يتمتعون بالخبرة في الجرائم التي يشملها النظام الأساسي إذا عُدّ ذلك ضرورياً. لكن يبدو أن أياً من السلطتين العراقية أو الأميركية لم تشعر بهذه الضرورة في ما يتعلق بالمحاكمات التي جرت.
أبدى بعض المعلقين، ومنهم منظمة «هيومن رايتس ووتش»، قلقاً مما إذا كان مجلس الحكم العراقي، الذي عينت أعضاءه سلطةُ التحالف المؤقتة، سينشئ مثل هذه المحكمة بما يتناسب مع القانون. وقد انبعث قلقهم من أحكام واردة في اتفاقية جنيف (رقم 4) المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في زمن الحرب، وهي تحد من التغييرات المجازة في القانون الجنائي في الأراضي المحتلة من السلطة المحتلة.
إن المادة 64 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تعكس القانون الدولي العرفي الملزم للولايات المتحدة ولكل قوى الاحتلال، تمنع إلغاء القوانين الجنائية أو تعليقها إلا حين تمثّل تهديداً لأمن السلطة المحتلة أو عقبة أمام قيامها بواجباتها وفقاً للاتفاقية، بما فيها واجب الحفاظ على القانون والنظام.
وإنشاء محكمة جنائية عراقية تتمتع بصلاحية النظر في الجرائم المرتكبة قبل وجودها بزمن طويل ولم ينص عليها القانون الجنائي العراقي، لا يمكن اعتباره رد فعل حيال تهديد أمني تعرضت له القوة المحتلة أو وسيلة للحفاظ على القانون والنظام. بالإضافة إلى ذلك، تمنع المادة 65 من اتفاقيات جنيف نفسها، التطبيق الرجعي لأي من «الأحكام الجنائية التي سنّتها سلطة الاحتلال».
لم تكن هذه محظورات القانون الدولي الوحيدة التي أغفلتها سلطة الاحتلال. فاتفاقية جنيف الثالثة المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب، قد يكون لها انعكاسات ضمنية على الطريقة التي وجب فيها إجراء محاكمة صدام حسين الذي كان لا يزال في عهدة الولايات المتحدة.
فبصفة القائد الأعلى لقوات النظام المسلحة، كان يحق لصدام أن يتمتع بوضع أسير حرب، وهو وضع اعترفت به الولايات المتحدة لاحقاً. إذا وُضعت جانباً مشروعية اجتياح الولايات المتحدة للعراق، كان يمكن للسلطة المحتلة أن تحاكم صدام حسين كأسير حرب. ولكن كما هو منصوص عليه في اتفاقية جنيف الثالثة، «لا يحاكم أسير الحرب، بأي حال من الأحوال، بواسطة محكمة، مهما كان نوعها، إذا لم تتوافر فيها الضمانات الأساسية من حيث الاستقلال وعدم التحيز».
بما أن أحكام اتفاقية جنيف الثالثة قد وُضعت للتأكد من حصول أسرى الحرب على الضمانات المحددة، من حيث العدالة والاستقلالية وعدم التحيز، فليس واضحاً إذاً بأي مسوّغ قانوني سلمت السلطات الأميركية صدام أو أسرى الحرب الآخرين الذين في عهدتها إلى المحاكم العراقية لكي تقاضيهم، من دون أن تكون الولايات المتحدة قد تملصت من واجباتها وفقاً لاتفاقية جنيف الثالثة.
هذا وسرعان ما تحوّلت إلى واقع، كلُ المخاوف من عدم حصول صدام على محاكمة عادلة في محكمة محلية عراقية، لا سيما أن العراق كان لا يزال تحت الاحتلال. وقد كتبت منظمات تُعنى بحقوق الإنسان وباحثون قانونيون وغيرهم من المعلقين، مجلدات عن انتفاء وجود ضمانات أساسية في المحكمة العراقية، وعن الانتهاكات الفاضحة للمبادئ الأساسية للعدالة الجنائية، وعن التدخل غير المجاز للسلطات العراقية وسلطات التحالف في عمل المحكمة وفي اغتيال محامي الدفاع.
إذا كان الدستور العراقي يوفر الحصانة القانونية، وإذا لم تكن الظروف السائدة في العراق تسمح بإجراء محاكمة عادلة للحاكم المخلوع ولأعضاء في حكومته، وإذا كانت مقاضاة صدام على يد سلطة التحالف المؤقتة مباشرة أو عبر الجهاز الذي عينته، أي مجلس الحكم العراقي (أو أي سلطة عراقية تالية)، فهل يعني ذلك أن ديكتاتوراً متهماً بارتكاب جرائم شنيعة ضد الإنسانية يحق له أن يفلت من وجه العدالة؟ قطعاً لا. فقد عالج النظام القانوني الدولي مثل هذه الحالات، وكان ليمثّل الخيار الأكثر منطقية للنظر في قضية صدام.
تُعدّ الجرائم الدولية، كتلك التي يُزعم أن صدام حسين ارتكبها (مثل جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب) جرائم ضد المجتمع الدولي وتهديداً للسلام والأمن الدوليين. فهي تنشئ صلاحية عالمية بالنسبة إلى مقاضاتها. فما كانت الخيارات المتاحة لقائد تحالف الاحتلال لتأمين محاكمة فعالة وعادلة؟
بعد نحو 50 عاماً من الكفاح، أنشئت المحكمة الجنائية الدولية المتمركزة في لاهاي للنظر في القضايا المرتبطة بالجرائم الدولية، كتلك المنسوبة إلى صدام حسين، وهي تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي والاستقلالية والأهلية. ويُتوقع أن تكسب، مع الوقت، سمعة مهنية كتلك التي تتمتع بها محكمة العدل الدولية، أي منزلة وثقة لا يتمتع بهما العديد من المحاكم الجنائية الخاصة، بدءاً بمحكمة نورمبورغ حتى اليوم، إذ غالباً ما يُعتبر الدافع السياسي المحرك الأساسي لكل من وجودها ونتائجها.
فهل كان رفع قضية صدام أمام المحكمة الجنائية الدولية خياراً متاحاً؟ لسوء الحظ، لا. فهذه المحكمة تفتقد إلى الصلاحية للنظر في الجرائم التي وقعت قبل 1 تموز / يوليو 2002، وهو تاريخ مباشرتها العمل، علماً بأن الأغلبية العظمى من التهم الموجهة أو التي يُرجَّح أن توجه ضد صدام كانت تتعلق بجرائم ارتُكبت قبل ذلك التاريخ.
بالإضافة إلى ذلك، كان يمكن المحكمة الجنائية الدولية أن تمارس صلاحية على الجرائم التي ارتكبها صدام في العراق فقط بموافقة العراق أو نتيجة إحالتها من مجلس الأمن الدولي العامل تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ولكن أياً من الاحتمالين لم يكن ممكناً للأسباب التالية: ليس العراق طرفاً في اتفاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية. ومع أنه يمكن لدولة ليست طرفاً في اتفاق روما الأساسي أن تقبل خاصة بصلاحية المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة إلى قضية معينة، فما كان ذلك مرجحاً في ضوء المعارضة الضاغطة التي كانت لتبديها الإدارة الأميركية حيال المحكمة الجنائية الدولية (على الأقل فيما تستمر الولايات المتحدة بالسيطرة الفعلية على العراق). كما أن معارضة الولايات المتحدة للمحكمة الجنائية الدولية كانت لتمنع إحالة من مجلس الأمن، لأن الولايات المتحدة ستمارس حتماً حقّ النقض في مثل هذه المحاولة.
لعلّ العمل الذي كان ليكسب أوسع دعم دولي ويراعي، إلى أقصى حد، سيادة القانون ومعايير الإنصاف هو إنشاء محكمة مختصة شبيهة بتلك المنشأة للنظر في الجرائم الدولية التي ارتُكبت في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. كما ذكر في حلقة يوم أمس، أنشأ مجلس الأمن الدولي المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا عبر ممارسة سلطته تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، على أساس أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تمثّلان تهديداً جدياً للسلام والأمن الدوليين.
وكان النظام الأساسي لمثل هذه المحكمة الجنائية ليُلحَق بقرار مجلس الأمن الذي أنشأها، كما كانت الحال مع القرارين اللذين أنشآ المحكمتين الخاصتين بيوغوسلافيا السابقة وبرواندا. وكان هذا النظام الأساسي ليحدد معايير اختصاص المحكمة وسلطتها، وأنواع الجرائم التي يجب أن تنظر فيها، وقواعد الإجراء والإثبات التي يجب أن تطبق في كل مراحل المحاكمة، ومواصفات القضاة والمحققين والمدعي العام.
بكلمات أخرى، كان النظام الأساسي للمحكمة ليؤمن كل الضمانات الأساسية التي تكفل الاختصاص والموضوعية وعدم التحيز في ما يخص محاكمة صدام وكل الذين كانوا سيُتهمون بارتكاب جرائم دولية.
لكي يُضمَن شعور العالم بأن العدالة قد تحققت في محاكمة على هذا القدر من الأهمية، لا يكفي فقط وجود قاض عادل وكفوء ومستقل تماماً، بل يجب أن تتوافر أيضاً مجموعة متقنة من الإثباتات، وتحقيق شامل معقد، ومدع عام مستقل يتمتع بكفاءة عالية، وأن تتاح الفرصة أمام فريق من محامي الدفاع الدوليين ذوي الخبرة يعملون كلهم ضمن إطار قانوني واضح يكفل الإنصاف وعدم التحيز.
من خلال التصريحات العديدة التي أدلى بها مسؤولون أميركيون، أسبغت الولايات المتحدة على جرائم صدام أبعاداً تاريخية، واستبعدت القانون الدولي القائم، ولجأت إلى استخدام القوة ضد دولة مستقلة عضوة في الأمم المتحدة بغية إطاحة حاكم يمثّل، على حد قولها، تهديداً لشعبه وجيرانه وسائر الإنسانية، ووجهت إلى صدام اتهامات بجرائم حرب وجرائم شنيعة ضد الإنسانية.
كانت محاكمة عادلة برعاية الأمم المتحدة، كما حصل مع مجرمين دوليين آخرين، لتساهم في سيادة القانون الدولية، وإثبات الادعاءات الأميركية بحق الحاكم العراقي الأسبق الذي أُعادت له الاعتبار بدلاً من كل ذلك.
كثيرون في العالم العربي والإسلامي كانوا، وما زالوا، يشككون في الدوافع المعلنة للجهود الأميركية في العراق والدعوات الأميركية إلى الديموقراطية في المنطقة. كثيرون كانوا، وما زالوا، يعتقدون أن صدام مثّل عذراً ملائماً لتنفيذ المخططات الأميركية للعراق ولسائر العالم العربي. كثيرون في الدول العربية والإسلامية وطبعاً في العالم، كانوا، وما زالوا، يعتقدون أن حساسية الولايات المتحدة المزعومة حيال جرائم صدام بموازاة موقفها المتصلب من الفظائع والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، هي نوع من عدالة انتقائية للتعمية على أهداف لا علاقة لها تقريباً بالسعي إلى تحقيق العدالة وبناء الديموقراطية أو تعزيز ثقافة سيادة القانون في العراق أو في العالم العربي.
لقد قدّمت محاكمة صدام حسين إلى الولايات المتحدة والعالم العربي وسائر عائلة الأمم فرصة تاريخية: فرصة إلى الولايات المتحدة لكي تجدد التزامها بسيادة القانون الدولي. كما مثّلت فرصة لإقناع المجتمعات العربية بأن المجتمع العالمي، لا طرفاً معيناً ذا مصلحة، يدعم تنفيذ قانون الأمم، وأن الفظاعات التي يرتكبها الديكتاتوريون لا تُترك للمزاجات المتقلبة وللمصالح المتغيرة لدى صاحب السلطة.
بما أن الولايات المتحدة بقيت قائدة الاحتلال وصاحبة القرار في العراق، كان لا بد من أن يُنظَر إلى محاكمة صدام حسين ـــ في العراق وعلى يد محققين ومدعين عامين وقضاة عراقيين دربتهم الولايات المتحدة وعينتهم وأثرت فيهم مباشرة أو بشكل غير مباشر ـــ كمحاكمة المتهِم للمتهَم، محاكمة أجراها مفوضون عن الولايات المتحدة، وأُعدت لتلائم الأهداف الأميركية بغض النظر عن المبادئ الأساسية للعدالة.
الضرر الذي لحق بمجلس الأمن الدولي وبسمعة العدالة الدولية في رعايته، لهو ضرر هائل. فالواجب الأخلاقي الذي يفرض الانصياع للقانون ولإملاءات المسؤولين المخولين إصدار قرارات ملزمة قانونياً، متجذر في امتثالها للمبادئ الأساسية للعدالة. وعندما يُساء استخدام وسائل تحقيق العدالة وتُحوَّل إلى أدوات لتشويه الحقيقة وإنزال الظلم، يصبح الواجب الأخلاقي القاضي بالانصياع واجباً أخلاقياً يقضي بالمقاومة. وعندما تُعدّ المصلحة السياسية العامل الأول والحاسم في المجرى الذي تتخذه العدالة، كيف يمكن المرء تقييم عمق الضرر الذي لحق بمصداقية نظام العدالة الدولي؟
باختصار، عبر السماح لمجلس الأمن الدولي باستخدام سلطته وتجاوز الحدود التي رسمها ميثاق الأمم المتحدة، تسبّب أعضاؤه، لا سيما أولئك الذين يتمتعون بتأثير كبير في عمله مثل الولايات المتحدة، بضرر غير قابل للإصلاح بالمؤسسة الدولية.
أما بالنسبة إلى الشعب اللبناني، فإن التلاعب بالعملية التي أدت إلى إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان وتجاهل مقتضيات بلدهم الدستورية سبّبا شرخاً يستمر في شلّ البلاد. وتبخرت عملياً ثقتُهم بنظام العدالة الجنائية الدولي، شأنها في ذلك شأن وحدتهم. عدد من الأشخاص، بمن فيهم أربعة من كبار الضباط في الجيش والقوى الأمنية اللبنانية، أوقفوا بناءً على تعليمات السيد ميليس، وهو أول رئيس للجنة التحقيق، ولا يزالون يتعذبون في السجن من دون أن يُسمح بإخلاء سبيلهم بكفالة أو بدونها ومن دون أن يوجَّه إليهم أي اتهام، وهو أمر ينتهك القانون والممارسات اللبنانية بالإضافة إلى المبادئ الأساسية للعدالة المقبولة دولياً.
هذه لمحة موجزة عن الضرر الذي ألحقه التلاعب المدفوع سياسياً بالعملية القضائية. تلاعب يجعل من العدالة الحقيقية أمراً مستحيلاً. يؤمل أنه في العمل المستقبلي للمحكمة الخاصة بلبنان، سوف يصلح أولئك المشاركون في عملها، إذا كانوا محترفين يتسلحون بالكفاءة والنزاهة والحصانة التامة أمام الضغط أو الإغراء السياسيين، بعضاً من أضرار لحقت بسمعة نظام العدالة الدولية.
* بروفسور مساعد في مركز الدراسات القانونية في جامعة جورج تاون ـــ واشنطن
(فقرات من مقال نشر في العدد الأخير من مجلة
Contemporary Arab Affairs)