عصام نعمان *لعلّ حقيقة العصر في مطالع القرن الواحد والعشرين أن الإسلام والمسلمين، إسلام الشعوب والمؤمنين والفقراء والمضطهدين والمغلوب على أمرهم، هم جميعاً ضد أميركا. أما الحكام والحكومات والدائرون في أفلاكهم والآكلون على موائدهم والمستفيدون من نفوذهم والمشاركون في مغانمهم وأسلابهم، فهم مع أميركا جهاراً نهاراً. جورج بوش يعرف هذه الحقيقة. اختبرها شخصياً أو عبر حلفائه ووكلائه والضاربين بسيفه في فلسطين ولبنان والعراق والسودان وأفغانستان وباكستان وإيران والصومال وإندونيسيا وتحت كل كوكب.
عندما ضرب رجال الإسلام الغاضب ضربتهم في مومباي، سارع ناطق بلسان خارجية أميركا ليؤكد قبل أي تحقيق أو تدقيق، أن ما من شيء يدل على أن لحكومة باكستان ضلعاً في الأمر.
هذا صحيح. الهند قبل أميركا تعرف أيضاً أن لا علم لحكومة باكستان وبالتالي لا دور لها في الضربة المذهلة التي تحاكي الهجمة الكارثية على نيويورك في 11 أيلول 2001. لكن نيودلهي تحرص دائماً على اتهام إسلام أباد بكل عملية عنف تنال منها كي تبتز الولايات المتحدة بمزيد من الدعم السياسي والعون الفني على الصعيد النووي. الصين تعرف أيضاً أن لا ضلع لباكستان في كل ما تعرضت له الهند أخيراً من عنف وأذى، ونسبته بسرعة متناهية إلى باكستان. لذلك، سارعت بدورها إلى تأكيد دعمها «المعنوي والمادي» الكامل لإسلام أباد للتغلب على التحديات التي تواجهها.
صحيح أنّ مصادر رسمية في إسلام أباد أشارت، في معرض الكشف عن الدعم الصيني الذي تلقته بعد هجمات مومباي، إلى أنها في وضع اكتفاء ذاتي بالنسبة إلى قدراتها الدفاعية، وأنه «يستحيل أن تلحق أي دولة أذى بها». إلا أن الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري بدا من تصريحاته متخوفاً من ردة فعل عسكرية هندية. لذلك حرص بدوره على تخويف أميركا بأن تصعيد التوتر «سيجبر بلاده على تركيز قدراتها العسكرية على حدودها الشرقية مع الهند»، أي بعيداً من الحملة التي تقودها واشنطن، بالاشتراك مع إسلام أباد، ضد متشدّدي منطقة القبائل المحاذية للحدود مع أفغانستان.
إدارة بوش أخافها فعلاً تصريح زرداري، فسارعت إلى إيفاد وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى نيودلهي وإسلام أباد من أجل تطمين الهند إلى أن واشنطن تضمن تعاون باكستان، سياسياً وأمنياً، معها في مواجهة «موجة الإرهاب» التي تطاول البلدين في آن واحد.
واقعة كون الهند وباكستان هدفاً لهجمات الإسلاميين المتطرفين، عبّر عنها بشكل لافت وساخر زرداري نفسه بقوله لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية: «حتى لو ارتبط المهاجمون بعسكر الطيبة (التنظيم الإسلامي المتطرف في كشمير)، فمن تظنون أننا نقاتل على طول حدودنا مع أفغانستان»؟
الهند وباكستان، إذاً، «في الهوا سوا». كلاهما يعاني من هجمات الإسلاميين الغاضبين والمتطرفين. وكلاهما يدفع الثمن نيابة عن الولايات المتحدة. فالعدو الرئيس للإسلام الغاضب في كل أنحاء المعمورة هو أميركا وإدارتها المعقودة اللواء، حتى 20 / 1/2009 لجورج بوش. هل الحكام في الهند وباكستان وفي كل مكان هم العدو المحلي الذي يصبّ عليه الإسلاميون جام غضبهم لصعوبة الوصول إلى الأصل الأميركي؟
الحقيقة أن الحكام المسلمين، في صدام الإسلام الغاضب مع أميركا المعادية، هم أصلاء ووكلاء في وقت واحد. ذلك أن فريقاً من الحكام يبدو في نظر الإسلام والمسلمين، لا سيما المتطرفين منهم، أنه «ملكي أكثر من الملك»، بمعنى أنه يغالي في محاربة الإسلاميين لأسباب تتجاوز العداء للولايات المتحدة إلى العداء للإسلام والإسلاميين أنفسهم. ما سبب هذا العداء؟ لعله ثقافي بالدرجة الأولى. ذلك أن جل الحكام المسلمين، إن لم يكن كلهم، متشربون ثقافة الغرب وممارسون لها على نحو فاقع، ما أوحى إلى الإسلاميين بأن التماهي في هذا المجال ناجم عن تطابق العقائد كما عن تطابق المصالح. صحيح أنّ اكتناه ثقافة الغرب، وحتى ممارسة سلوكياتها الاجتماعية، لا يعني بالضرورة تبنّي طروحات الغرب والدفاع عن سياساته ومصالحه. لكن الصدام بين الإسلام الغاضب ودول الغرب بلغ من القوة والاتساع حداً جعل المسلمين، لا سيما المتطرفين بينهم، يتجاوزون في معمعمة الصراع، الفروقات الثقافية والسياسية، ويضعون كل ما هو غربي الطابع والثقافة، ولو في حدود ضيقة، في خانة العدو القومي والسياسي والأيديولوجي.
هذا، دونما مبالغة، واقع الحال في معظم البلدان الإسلامية، إن لم يكن في كلها. فالإسلام الغاضب، بشعوبه وجماعاته وأفراده، بات في موقع العداء لأميركا ولحلفائها وأصدقائها والسائرين في ركابها. هؤلاء جميعاً يكنّون لها العداء، بل يبادلونها العداء، لأسباب سياسية واجتماعية وثقافية. هي عدو سياسي لأنها تنكر على الشعوب الإسلامية حقوقها الوطنية التي لا تقبل التصرف، بل تدعم أعداء هذه الشعوب ومغتصبي حقوقها وأراضيها ومصالحها. أليس هذا واقع الحال في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان والسودان وفلسطين؟ وهي، مع الكثير من حلفائها، تنكر على الشعوب الإسلامية حقوقها الاجتماعية في المساواة وعدم التمييز لأي سبب يتصل باللون أو الجنس أو الهوية أو الدين أو المنزلة الاجتماعية. أليس هذا واقع الحال، لا سيما بالنسبة للعنصرية الشديدة التي يعاني منها المسلمون في العديد من دول أميركا وأوروبا؟
حيال هذه الظاهرة، بل هذا التحدي، نشأت مشكلتان: واحدة لدى الإسلام، وأخرى لدى الغرب. فالإسلام والمسلمون الممتعضون من موقف الغرب والساخطون عليه، حكوماتٍ وأفراداً، من مسائل الحقوق السياسية والعنصرية والهجرة واحترام الشعائر والطقوس، أداروا ظهورهم للغرب بكل جوانبه ووجوهه، حارمين أنفسهم بهذا الموقف، من إنجازاتٍ غربية مفيدة في شتى حقول المعرفة والعلوم والتكنولوجيا. ودول الغرب، من جهة أخرى، أصرت على تجاهل جذر هذه الجفوة، بل هذا العداء، بين الغرب والإسلام، من حيث رفضها معالجة أصل النزاع والأخطاء التي تفرعت منه. وهكذا بقيت قضايا العرب والمسلمين في فلسطين ولبنان والعراق والسودان وغيرها من الأقطار والأمصار من دون معالجة ولا رعاية. وازدادت الأمور تعقيداً وبلاءً بلجوء دول الغرب إلى العنف، متوهمةً أن المشكلة في أساسها أمنية وأن بالقوة يمكن حل المشكلة ومعالجة آثارها. فماذا كانت النتيجة؟
تجاوز الإسلام والمسلمون وسائل الاحتجاج والاعتراض التقليدية، أسّسوا تنظيمات سياسية وعسكرية وشغّلوها ضد دول الغرب المستعمِرة أو المفتئتة أو المحتلة، وباشروا ضدها حروباً حقيقية على مدى العالم الإسلامي كله، من شواطئ المحيط الأطلسي غرباً إلى شواطئ المحيط الهندي شرقاً.
هذه الحروب المتعددة لا تبدو متفاقمة ومتناسلة فحسب بل مجزية أيضاً. فقد أمكن دحر إسرائيل، حليفة أميركا، في لبنان بفضل مقاومة حزب الله، وأمكن استنزاف أميركا في العراق لدرجة باتت معها متلهفة للانسحاب بالتي هي أحسن، وأمكن إلحاق خسائر باهظة بها وبحلفائها في أفغانستان دفعت وكيلها المحلي، الرئيس قرضاي، إلى طلب مفاوضة «طالبان» بغية التوصل إلى مخرج من المذبحة المتطاولة.
الحرب بين الإسلام الغاضب وأميركا المتورطة بغيّها وغطرستها وعنصريتها وعدائها الغريزي لحقوق الشعوب العربية والإسلامية، مستعرة وملتهبة ومتوسعة. إنها حرب عالمية متعددة الجبهات، كثيرة الأغراض، باهظة الخسائر والأضرار. ومع ذلك، ترفض أميركا ـــ بوش أن تتراجع عن تشخيصها الأمني لها ولا بالتالي عن النهج الأمني الفاشل في مواجهتها.
هل للإسلام فرصة غير أمنية، حتى لا نقول سياسية وإنسانية، مع باراك أوباما؟ بل هل تمنح أميركا نفسها، في مواجهة الإسلام الغاضب، فرصة لمعالجة الأزمة المستعصية بغير أساليب الضرب والحرب والعنصرية الفاجرة؟
* وزير سابق