كنت أمشي في الحمرا، وبدا الشارع غريباًَ، تداخلت الأحجام والأشكال والوقائع. تغيّرت المقاهي وزبائنها. لم يعد المثقّفون يتحدّثون عن القصائد، ولم يكن آخرون ينظمون الشعر للفتاة السمراء. لم أستطع ردع نفسي، جلست مع عدد من الأصدقاء وشربنا «كأس المحبّة» وكنا نملك ثمن رغيف خبز. وفيما كنا نحتسي الويسكي، رأيت، بـ«الطالع» من «ملك البطاطا»، أطفالاً فرحين بألعابهم في وسط الشارع يمازحون العسكر الذين يقابلونهم الودّ والفرح نفسيهما.أنهيت الجلسة مع أصدقائي وتابعت المشوار في الشارع. لفت انتباهي طيف يعبر زاروباً جانبياً. كان عازف غيتار. رأيته ملء عينيّ، ولم تكن رجله خشبيّة، وبدا أنه تخلّص من هذه اللعنة التي لاحقته منذ أيام الحرب. رائحة أوتاره لم تكن تفوح دمعاً، بل على العكس، كان فرحاً، يصرخ ابتهاجاً كأن زمن الزوابع انتهى. مدّ لي بطاقة كتب عليها: يمكنكم زيارة حيفا بـ45 دولاراً. انهزّ بدني، لقد عدنا إلى حيفا، كما وعدنا حسن.
فجأة أجد نفسي في فراشي، وقد قذفت عنّي الغطاء، رأسي ملفوف بشال ورائحة vicks تفوح مني. أدركت أني لم أزل مريضاً وألازم الفراش منذ يوم أمس. ولليوم الثالث على التوالي كنت أستمع إلى ألبوم خالد الهبر الذي صدر بداية هذا الأسبوع. ما رأيته لم يكن إلا «الحمرا» و«عازف الغيتار» بنسختيهما الجديدتين.
قمت من سريري وكان جسدي لا يزال منهكاً من الحرارة والنوم المستمرّ. تناولت أعداد «الصحيفة» التي لم يتسنّ لي الوقت لقراءتها وتدوين الملاحظات اللازمة على بعض مقالاتها. تلاحقت الأعداد وفيها «نقاش» بين كاتبين، يهين أحدهما الآخر، ويزايدان بيساريّتهما. هما من الجيل اليساري التابع للحرب الأهلية، الجيل الذي أنهك اليسار وتخلّى عنه مع سقوط جدار برلين وبدء عملية الجلد الذاتي.
رميت الصحف، وأعدت تشغيل ألبوم الهبر. سمعته مجدداً. وتمنيّت لو ترتفع حرارتي من جديد وأغفو وأحلم أنّ «هيدا زماننا» وأنّ كل المعوّقات، بمن فيها يساريّو الحرب الأهلية، زالت.
نادر...