سعد الله مزرعاني*لهذه الأسباب، كانت لنا دون سوانا «أم حنون»، ثم كان لنا «أصدقاء» يدعموننا ونستقوي بهم في صراعاتنا الداخلية لتثبيت توازن أو لتعديله، ثم كان لنا، بالضرورة، أوصياء في مراحل الصراع واستفحال النزاعات وتحولها إلى نزاع أهلي يضعف باستمرار مكوّنات وعناصر الوحدة الوطنية الداخلية. ولم يكن الأمر يقتصر على تناقضاتنا وصراعاتنا الداخلية. فلقد كانت النزاعات والصراعات الإقليمية تتسرب، بيسر وسهولة، إلى مسام بنياننا الوطني فتمعن فيه، هي الأخرى، إضعافاً وشرذمة.
واضح أن الصراخ الحالي بشأن موضوع العلاقات اللبنانية ـــ السورية، لا ينطلق من همّ إعادة نظر جذرية في علاقاتنا الرسمية وغير الرسمية مع الخارج. إنه جزء من الصراع وليس تصويباً لأحد عناوينه. بل هو في ظروفنا الحالية، تعميق للصراع الشديد الضرر، بحيث يمكن القول دون تردد إنه مسيء إلى الوحدة الداخلية المرجوة وإلى المصلحة الوطنية المنشودة.
ولنبدأ بأن علاقاتنا مع سوريا، تحتاج، بالفعل، إلى تصحيح. وهو تصحيح يشمل في الوقت عينه، مسألتين، وإن بدتا متناقضتين في الشكل إلا أنهما متكاملتان في الجوهر. فلقد قامت العلاقات في المراحل الأخيرة، مرة على الولاء، ومرة أخرى على العداء. وليس هذان النمطان صالحين لإرساء علاقات سليمة ومثمرة ومفيدة للطرفين اللبناني والسوري. ثم إن إمعان فريق 14 آذار في محاولة ربط سياسة لبنان بسياسة الولايات المتحدة في المنطقة (في عهد الإدارة البوشية ثم لاحقاً)، هو أسوأ مدخل على الإطلاق للتعاطي في موضوع علاقاتنا مع دمشق، وخصوصاً في ظروف التباين السوري ـــ الأميركي بشأن مسائل أساسية في المنطقة، تبدأ من الانحياز الأميركي إلى إسرائيل، لتشمل أيضاً الصراع الدائر في العراق وفي لبنان وفي
فلسطين.
إن الانطلاق في الحملة على سوريا من موقع الارتباط بالسياسة الأميركية (بل محاولة استدراج الإدارة الجديدة في واشنطن لاستمرار القتال حتى آخر لبناني تأكيداً لـ«حكاية النصر» في لبنان!)، هو أقصر الطرق لاستدعاء سوريا إلى لبنان، شاء بعض فريق 14 آذار أم أبى! من ناحية ثانية، فإن التذرع بموضوع محاكمة الشهيد الحريري سبباً لاستمرار العداء لسوريا نظاماً وحكومة وشعباً، إنما هو تذرع فقد مبرراته السياسية (إلا في موضوع إثارة العواطف والغرائز من أجل الكسب السياسي في معركة الفرز المذهبي والطائفي، والكسب الانتخابي في معركة الربيع المقبل). لقد اتهم فريق 14 آذار سوريا (كل سوريا!) بالمسؤولية عن ارتكاب الجريمة. والواقع أن الحكم قد صدر بذلك منذ شباط وآذار ونيسان من عام 2005، حين أُخرجت القوات السورية من لبنان، واستُبدل أيضاً الحكم المتعاون معها بحكم معادٍ إلى درجة الانخراط في مشاريع لإسقاط النظام السوري في سوريا نفسها. وهو كان حكماً دولياً وعربياً ولبنانياً أيضاً (من جانب فريق 14 آذار). ولذلك لم يعد يجدي انتظار تحقيقات المحكمة الدولية إلا من أولئك الذين يريدون استثمار كل شيء وفي كل الأوقات، ولو كان ذلك غير منطقي وغير طبيعي، وحتى غير ممكن! أما الاحتمال الثاني فهو أن يكون الحكم المذكور هو عكس ما سيصدر عن المحكمة التي ستبدأ في آذار المقبل، مما يستدعي حملة تغطية مسبقة، تمثّل استمراراً للإدانة السابقة، لا انتظاراً للقرار الظني للمحقق والمدعي العام السيد «بلمار».
أما ميدانياً، فإن الأمور للأسف تتجه نحو مستوى أخطر من التدهور والفئوية وعدم الشعور بالمسؤولية: فهل يحق مثلاً لأحد أقطاب فريق 14 آذار أن يذهب إلى واشنطن في زيارة أحد أهم بنود البحث فيها مع وزيرة الخارجية الأميركية موضوع الانتخابات النيابية في الربيع المقبل، فيما يتعالى الصراخ من «الأمانة العامة» لفريق 14 آذار عن ضرورة أن تبحث الحكومة اللبنانية، فتمنع أو تجيز كل زيارة إلى سوريا رسمية أم غير رسمية في مجلس الوزراء! لن نتحدث عن السعودية والعلاقات معها وعن الدور المصري في لبنان... فهذه أمور لا يراها فريق 14 آذار بحاجة إلى بحث أو إذن من مجلس الوزراء اللبناني!
المسألة إذاً، هي في استمرار المنطق الفئوي في التعامل مع عناوين، باتت تحتاج إلى منطق وطني. والمنطق الوطني يقضي بأن يعاد النظر بالفعل في علاقاتنا الخارجية الرسمية وغير الرسمية، وأن يقوم كل فريق بالتالي بما ينبغي عليه من المراجعة والتغيير والتبديل، لكي تكون العلاقات الرسمية هي الأساس، لا العلاقات غير الرسمية، ولكي تقدم المصالح الوطنية على المصالح الفئوية، لا العكس كما يجري حتى اليوم.
تبقى مسألة أخيرة: إن ثمة اتجاهاً يتعزز اليوم، نحو بناء علاقاتنا على أساس من التوازن، على أمل أن تبنى أيضاً لاحقاً وتباعاً، على أساس من الاتزان! ويلعب الرئيس ميشال سليمان دوراً متنامياً في هذا المسار. الغريب أن هذا الدور مستهدف اليوم، مما يشير إلى أن «حكاية لبنان» هي، بالنسبة للبعض، حكاية أميركية، ومن فصولها تكريس أن الصراع في هذه المنطقة، ومنها لبنان، لم يعد مع الغاصبين والمحتلين، بل مع ضحاياهم عموماً، ومع مقاوميهم في لبنان فلسطين والعراق و... خصوصاً!!
* كاتب وسياسي لبناني