زيارة واحدة إلى هافانا تكفي لكسر كل المقولات التي يروّجها الإعلام عن عاصمة كوبا. هنا الاحتفال يقوم من دون مناسبة. السيجار للفقير والغني. وإن كنت أجنبياً، فلن تشعر بالغربة، وستلقى دائماً من يرشدك في نزهاتك
جلنار واكيم
ثمة أماكن في هذا العالم لا يمكن المرء ألا يزورها. لائحة من الأماكن التي نشعر بأنها تدعونا لنتعرف إلى ثقافها وطبيعتها وفنها وموسيقاها، إنها أماكن خارجة عن الزمن الذي نعيش فيه ويحاصرنا. الروح فيها مختلفة، والحياة فيها لها معنى مغاير. ربما من أكثر الأماكن التي تحاكينا وتجذبنا هي كوبا. كوبا الرقص، كوبا التاريخ، كوبا الموسيقى، كوبا فيديل وكوبا تشي غيفارا.
من مدريد استغرقت الرحلة حوالى ثماني ساعات، مضت بسرعة لأنها كانت ثماني ساعات من العزف والرقص والغناء، فالمسافرون يستعدون في الطائرة لـ«الأجواء التي تنتظرهم».
«نحن أخيراً فوق كوبا»، عبارة تناقلناها بهمس قبل أن تحطّ طائرتنا. شعرنا بأن هذه الجزيرة تستقبلنا بخضرتها وطبيعتها كأنها تعلن «أهلاً بكم في الجنة».
من المطار في هافانا... إلى منزل امرأة كوبية وأختها اللتين تقطنان في دار وسط العاصمة، وتؤجّران غرفة في منزلهما للسياح. هنا كنت أتناول فطوراً كوبياً كل صباح، وكانت غلوريا تخبرني قصصاً وروايات، لم أكن أفهمها كلها، ولكنني كنت أستمتع بالشغف الذي كانت تروي به القصص. الشعور الأول الذي راودني عندما كنت أتنزّه في شوارع هافانا هو أن المدينة تبدو خارجة عن الزمن. شوارع تحيط بها قصور قديمة، تتقاسمها عدة عائلات. كلما كنت أتوقف لأنظر إلى قصر ما، كان السكان يخرجون منه ويدعونني لزيارة دارهم، وسرعان ما كانوا يخبرونني قصة القصر، ومن كان يقطن فيه «قبل أن تأخذه الثورة وتوزّعه عليهم».
التنزّه في هافانا أمر رائع. فأنت حتماً ستلتقي بأناس يرقصون في الشارع وآخرين يستمعون إلى الموسيقى، كأن هؤلاء يزيّنون نزهتك.
الصدفة الأجمل بالنسبة إليّ كانت يوم كنت أتمشّى في شوارع العاصمة، فرأيت عجوزاً طلبت مني أن أساعدها لتقطع الطريق. أمسكت بيدها ومشينا معاً. وسرعان ما سألتني من أين أتيت، أجبت بأنني لبنانية. فدهشت وقالت لي إنها من أصل لبناني أيضاً. ضحكت بداية ولم أصدقها، ولكنها أكدت لي أنّ أصلها من قرية بر الياس (في البقاع)، إلا أنها لم «تستطع الذهاب إلى لبنان ولو لمرة واحدة بسبب الحرب الأهلية».
كنت أمضي الكثير من الوقت في شوارع المدينة. ولكن كان من الصعب أن أبقى وحيدة لوقت طويل. كان هناك دائماً شخص يتقدم و«يتبرع» لمرافقتي إلى المتاحف، ولتعريفي أكثر إلى تاريخ الجزيرة. وإن كان هذا الأمر يثير الرعب في مكان آخر أو أنه قد يكون طلباً للمال، إلا أنّ الكوبيين يفعلون ذلك فقط للتحدث والتعرّف إلى الأجانب. ثم كان المرافق الغريب (واللطيف دائماً) يتركني للتوجه إلى عمله. يرحل هو فيأتي آخرون.
هافانا مدينة آمنة جداً، رغم كل الشائعات التي تحاول أن تظُهر كوبا بلداً خطراً، والتي يروّج لها الإعلام الأميركي والعالمي. كوبا هي بالتأكيد الدولة الأكثر أماناً في أميركا اللاتينية، لا بل إنها من أكثر الدول أماناً في العالم. كنت أمشي وحيدة في الشارع ليلاً أو نهاراً، فلم أكن أتعرّض سوى لمعاكسات طريفة من الكوبيين، ولم يعترض دربي أيّ شخص مزعج.
هنا أيضاً أتذكر رواية طريفة. كنت على شاطئ البحر مع صديقين، فلسطيني وآخر كوبي. فجأة أتى بضعة رجال كوبيين ورموا بأكياس كبيرة في البحر، أوحت لي بأشكال جثث. فذعرت وقلت إنه يجدر بنا أن نتصل بالشرطة. ضحك الكوبي وقال لا داعي لذلك. لكنني كنت مصرّة، فردّ أن هؤلاء إن كانوا يرمون بجثة فسوف نعرف ذلك في غضون ساعات قليلة، لأن مجرى المياه حول كوبا يصبّ دائماً عند شاطئ سانتياغو دي كوبا الذي لا يبعد كثيراً عن هافانا. وأضاف أنه «سبق أن وقعت جريمة في العاصمة، لكن القاتل لم يفر أكثر من بضع ساعات، فعُثر عليه بسهولة نسبية». وأضاف «إنها كوبا ياعزيزتي، الكل يعرف كل شيء. كما أنّ ما يُرمى في الماء هو في الغالب طعام لأم البحر «يمانجا» التي يؤمن بها الكوبيون والبرازيليون».
عن أجواء الاحتفال التي تعرفها البلاد، أتذكر أنني في اليوم التالي لوصولي استيقظت باكراً على صوت موسيقى كوبية صاخبة. ظننت أنّ هناك احتفالاً، ركضت إلى الشارع، فلم أجد أحداً. رأيت سيدتين تجلسان وحيدتين. سألتهما إن كان هناك احتفالات. فاستغربتا السؤال وأجابتا بالنفي، فسألت حينها عن مصدر الموسيقى، ضحكتا وقالتا إنّ ذلك عادي ولا حاجة إلى احتفال لسماع الموسيقى. الكوبيون يعيشون مع الموسيقى والرقص كركيزة لحياتهم اليومية.
لا تكتمل زيارة كوبا إلا بالرقص مع الكوبيين. يوم الأحد هو ملتقى الكوبيين في أحياء يأتون إليها، موسيقيين كانوا أو راقصين، ليحتفلوا معاً. الكل يرقص ويغني ويعيد إحياء التقاليد الأفريقية القديمة. وسرعان ما تصبح رقصة السلسا سيدة الموقف.
بالإضافة إلى هذه الناحية، الكوبيون كلّهم متعلّمون. ويعود الفضل في ذلك إلى إنجازات الثورة. هذا ما أكده شبان كثيرون، حتى وإن كان البعض يتحدث عن رغبة في التغيير. ورغم القول الشائع بأن الكوبيين كلهم فقراء، الواقع يقول غير ذلك. هنا الجميع غني. الكوبي لا ينقصه شيء. نمط الحياة في كوبا قد لا يعني لنا ـــــ نحن أبناء المجتمعات الاستهلاكية ـــــ شيئاً، أو إننا لن نفهم أهميته. سلاح الكوبي شهاداته الجامعية التي أصبحت بأهمية البترول، وخاصة عندما تبادل تشافيز وكاسترو البترول مقابل أساتذة كوبيين لمحو الأميّة في فنزويلا. العداوة الأميركية لكوبا أشهر من أن يُذكّر بها. وحده السيجار يكسر الحصار، ويبقى المفضّل عند الأميركيين.
هل قلت سيجار كوبي؟ كيف تزور البلاد ولا تدخل أحد معامل تصنيعه. استقبلتني الرائحة ووجوه الكوبيين الجالسين منهمكين وهم يلفّون السيجار في مصنع قرب العاصمة، يصنعونه ليشتريه كل الناس في البلاد. هنا السيجار ليس علامة تفرقة بين غني وفقير.


غوانتانامو قصة العداء

من الرحلة مع السيجار والرقص والفرح، كنت أفكر أن كوبا هي بالفعل كأرض الجنة، لكنها ملوّثة بسجن غونتانامو الأميركي الذي يخالف كل معاني الفرح والمساواة في باقي أنحاء الجزيرة الكوبية. هنا الكلام عن غوانتانامو يلخّص العداوة الأميركية ـــــ الكوبية. البعض سيقول لك إنه أبرز تلخيص للسياسة الأميركية الخارجية. «أميركا تأتي بأعدائها إلى أرض تحتلها، وتتعامل مع السجناء بما ينافي شرعة حقوق الإنسان والأسير»، من الإجابات التي تسمعها مراراً في كوبا عند السؤال عن المعتقل الشهير