إيلي شلهوبتزايد حدة التوتر في العلاقات الهندية الباكستانية هذه الأيام بالغ الخطورة. ما جرى في مومباي أكبر من قدرة النظام الهندي على تحمله. حقيقة تورط منظمات باكستانية حوّلته إلى أزمة إقليمية بأبعاد دولية، أحرجت حكومة إسلام آباد وأربكت الإدارة في واشنطن. اعتداءات بلغت من التعقيد والدموية حداً لا شك في أنها تهدّد بصدام عسكري لو جرت قبل سنوات فقط. لكن الرهان الآن على حرب هندية باكستانية يبدو مزحة سمجة، وخاصة بعدما تحولت هذه المنطقة إلى الحلقة المركزية في الاستراتيجية الأميركية في العالم.
مسارعة واشنطن إلى التدخل وإيفاد كوندوليزا رايس إلى نيودلهي وإسلام آباد لضبط الوضع بالغة الدلالة. حساباتها مرتبطة عضوياً بما يجري في منطقة القبائل. هي تدرك أن أي عسكرة للأزمة ستجبر إسلام آباد على سحب وحدات مسلحة من المناطق المتاخمة للحدود مع أفغانستان، وسترفع مستوى التعبئة في الداخل الباكستاني لمصلحة الإسلاميين والتنظيمات الأصولية، فكيف بالأحرى إن انجرّت باكستان إلى مواجهة شاملة لا بد أنها ستقضي على الجهود الأميركية في مكافحة الإرهاب في العالم.
بل أكثر من ذلك. لا ترى واشنطن مصلحة استراتيجية في خوض الهند نزاعاً مسلحاً يشغلها عن مراكمة القوة ضد الصين. وهي التي تحالفت أخيراً مع نيودلهي، بعد عقود من الجفاء وعلى حساب حليفها التاريخي الباكستاني، لتحقيق هذه الغاية. كذلك فإن الهند أصلاً ليس في وارد خوض حرب جديدة مع جارتها اللدودة، فيما يشهد اقتصادها نمواً غير مسبوق يضعها في مصاف الدول الكبرى، وفيما الأبواب كلها تُفتح في وجهها ممهدة لها الطريق لشغل مواقع رئيسية في محافل دولية مركزية، في مقدمتها مجلس الأمن.
رغم هذا، لا شك في أن الهجمات الدامية تلك حققت هدفها، الذي يبدو واضحاً أنه كان تخفيف الضغط على الجبهة الشمالية الغربية. واقعة حصولها بعد أيام فقط من إعلان أميركي عن عزم باراك أوباما تأليف فريق خاص لحل أزمة كشمير لا يبدو محض صدفة. متابعة التحقيقات حولها وتكشف المزيد من التفاصيل والأسماء سيزيد من حرج حكومة إسلام آباد التي تبدو أعجز من أن تستجيب للطلبات الهندية. الجهة المتهمة، «عسكر طيبة»، هي عماد مقاومة «الاحتلال الهندي» لكشمير، تلك القضية التي تغرس عميقاً في الوجدان الباكستاني. وهي أيضاً من صناعة الجيش، وبالتحديد وكالة الاستخبارات الداخلية، التي حكمت البلاد على مدى عقود ونفذت العديد من الانقلابات قبل أن يحلها أخيراً رئيس الأركان الجديد أشرف كياني في بادرة منه لتأكيد عدم نية الجنرالات التدخل مجدداً في السياسة. خطوة لا تعني أبداً حصول تغييرات في توجهات العسكر، وليست إشارة إلى انقسام في صفوفهم، والدليل بقاء برويز مشرف في روالبندي بحماية أصحاب البزات المرقطة، رغم كل ما جرى معه وله.
وكالة كانت العقل الذي أنشأ حركة طالبان وغيرها من التنظيمات المسلحة الإسلامية ووفّر لها الدعم والرعاية. ضباطها متهمون بالتورط في تفجيرات مومباي، علماًً بأنهم، وغيرهم كثر من أركان المؤسسة العسكرية، ناقمون على السلطات الحاكمة في إسلام آباد، من رئيس وحكومة يهيمن عليهما حزب الراحلة بنازير بوتو. نقمة جذورها تاريخية، تعود إلى أيام ذو الفقار علي بوتو، وفاقمتها السياسات التي يعتمدها الحكام الجدد، وخاصة هذا الاتفاق الضمني مع الولايات المتحدة لشن غارات والقيام بتصفيات لـ«الإرهابيين» في المحافظات الشمالية الغربية.
بهذا المعنى، فإن أي استجابة لطلب نيودلهي تسليم المطلوبين لها لا بد أن يثير اضطرابات في باكستان، تلك القوة النووية، يعرف الجميع كيف تبدأ، لكن لا أحد يمكنه توقع كيف تنتهي. وكل ضغط أميركي على إسلام آباد سيزيد من عمق الشرخ الباكستاني، ويفاقم من هشاشة هذه «الدولة الفاشلة» التي تراها إدارة أوباما أكثر خطراً على الولايات المتحدة من «الدول العدوة».
وبالتالي، فإن الأزمة الحالية ستبقى تستعر تحت الرماد، مهددة بنيران ستحاول واشنطن جاهدة إخمادها، بضغوط يُرجح أن تمارسها على الهند، حيث المخاوف من اندلاع اضطرابات طائفية انتقامية، بانتظار تسلم الرئيس الجديد مقاليد السلطة في واشنطن وظهور ملامح سياسته حيال هذه المنطقة.
إنها طريقة «المقاتلين الأعداء» في الترحيب بالقاطن الجديد للبيت الأبيض. استقبال يدل على استعدادهم للقتال حتى الرمق الأخير دفاعاً عن «جناتهم الآمنة»، وإن سببوا حرباً إقليمية. رسالة أرادوا من خلالها التأكيد أن ما جرى معهم في العراق لن يسمحوا بتكراره في عقر دارهم..