محمد بنعزيز *1ــ اليسار الجذري، تمثله أحزاب النهج الديموقراطي، والطليعة واليسار الموحد، ومحمد الساسي هو أفضل متحدث في هذا التيار، وهو يطالب بإصلاح دستوري جوهري يشمل الطبقات الأربع للدستور، وهي الهوية، المبادئ العامة للملكية، السلطات الثلاث، والتنظيم التراتبي. على صعيد الهوية، يريد الساسي أن ينص الدستور على العلمانية، ودسترة الأمازيغية، وتبني مرجعية حقوق الإنسان كاملة، ثم إعلان ملكية برلمانية، يسود فيها الملك ولا يحكم، وتنصيص الدستور على فصل السلطات...
ما وزن هؤلاء اليساريين الذين يطرحون هذه المطالب العالية بهذه الثقة؟ بل يتساءلون من سيعدّل الدستور بدل أن يطالبوا بتعديله. لا تزيد تمثيليتهم في الشارع السياسي على 0.3 % حسب خصومهم، ويخشون عتبة 6% في الانتخابات، ومع ذلك يطالبون بتغيير جوهري للدستور. إنهم ضعفاء، ومع ذلك يتهمون السلطة «بالإقصاء».
2ــ المحافظون، تمثلهم الأحزاب التي تكوّنت في أنابيب السلطة مثل حزب التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري، يعارض هؤلاء تعديل الدستور أصلاً، يتجنبون مناقشة مبادئ الملكية، ويقولون إن خصوصيتنا تميزنا، يزعمون أن دستور 1996 جيد وفي منتهى الكمال. وهم يستغلون كل فرصة لإحصاء النقط التي يسجلها الملك ضد الحكومة.
يقول هؤلاء إنّ الملك ينجح حيث تفشل الحكومة. ومنهم عبد الله فردوس عن حزب الاتحاد الدستوري، وهو يعارض فكرة التعديل الدستوري ويحمل المسؤولية للحكومة، ويرفض جعل الدستور شماعة لتعليق الأخطاء. حسب اليسار الجذري، فهؤلاء هم ورثة «الرجعيين والانتفاعيين»، يقول الساسي، وإن هؤلاء المحافظين لا نقاش معهم.
3ــ أنصاف المحافظين، وهم الأغلبية، يريدون تعديل الدستور لا تغييره، وهذه مواقفهم: قال الإسلامي عبد الإله بن كيران إنه «ليس مع تقليص صلاحيات المؤسسة الملكية بوصفها مكوناً أساساً من مكونات المجتمع المغربي منذ تاريخ بعيد»، ووافقه الشيوعي السابق والوزير الحالي خالد الناصري بقوله: «لا أرى أن الهدف الذي ينبغي أن يتوخاه التعديل الدستوري هو التقليص من اختصاصات الملك والنيل من موقعه». وعضده عباس الفاسي قائلاً: «مقترحاتنا الدستورية ستتم بتجاوب مع جلالة الملك، تقدمنا بطلب شفوي، لا يخطر ببالنا أن نقلص صلاحيات الملك». ولتسطيح النقاش، رأت جريدة حزب الاستقلال المطالب الدستورية مجرد موضة. وإن كان لا بد من الموضة، تضيف الجريدة، فمن «المستحب أن تتجه الإصلاحات إلى تقوية مؤسسة الوزير الأول... ولا معنى لكل هذه المطالب إلا في إطار التوافق مع جلالة الملك»، وهذا ما سماه الصحافي رضى بن شمسي «النفاق»، وتساءل: «لماذا سيُقلص الملك صلاحياته لمجرد أن نطلب منه ذلك باحترام؟».
يقول الساسي إن هؤلاء يبشرون بالإصلاح ويعارضونه. يلقون إشارات للنظام، فإن تقبلها يتقدمون بمقترحات للإصلاح غير الجوهري. وإن لم يحصل تقبّل يصمتون. وهم الآن صامتون، ويبرّرون ذلك بالحرص على التقرب من القصر وكسب ثقته كي لا يدعم تكوين حزب أنابيب جديد. هذه هي المواقف الحقيقية، وقد طرحت بوضوح قبل انتخابات أيلول/ سبتمبر 2007. وكان ذلك مجرد تسخين للحملة الانتخابية، أما بعد الانتخابات فقد نُسي الموضوع تماماً، لذا قوبلت إثارته في بيان الاتحاد الاشتراكي بالعجب. لكن السبب في هذا التشدد اللفظي هو المزايدة لإرضاء قواعد الحزب الساخطة. ومن بين تمارين المزايدة الحديث عن انسحاب الحزب من الحكومة وبناء صفوفه في المعارضة. أما بعد المؤتمر، فقد نسي زعيم الحزب المعارضة وطالب بزيادة نصيب حزبه في المقاعد الوزارية...
تبرز تصريحات قادة الأحزاب القومية والاشتراكية والإسلامية أن الفاعلين السياسيين الرئيسيين لا يريدون ملكية برلمانية. لماذا؟ يجيب الساسي: «ترك الحسن الثاني لابنه إرثاً سياسياً مركباً. هناك طبقة سياسية في معظمها طيّعة، لم تعد تحمل أي قدر من الممانعة، وتقبل بقواعد اللعب الأساسية التي بذل الحسن الثاني مجهوداً ضخماً لفرضها. لم تعد الطبقة السياسية المنحدرة من الحركة الوطنية تتذكر أن سيادة الشعب هي حجر الزاوية في البناء الديموقراطي. وبعد وفاة الحسن الثاني أصبحت (تلك الطبقة) تطالب الملك الجديد بالوفاء لمساحة السلطات الأساسية، بل تعدّه منهج الاستمرارية، ولا ترى ضيراً في تواصل اكتساح الملك ضمانةً لتحييد المنافسين الجدد لتلك الطبقة».
هؤلاء السياسيون هم السبب إذن، وهم يعكسون عمق المغرب المحافظ. يقول رئيس اتحاد كتاب المغرب عبد الحميد عقار إنّ «القيم التي يحيا بها المغاربة والثقافة التي تكوّن لاشعورهم، هي ثقافة أميل إلى المحافظة، فنسبة المحافظة في اللاشعور المغربي أقوى من نسبة النزوع نحو التفكير الحداثي، لذلك فإن الإخفاقات التي صاحبت مشاريع التحديث، لا تعود أسبابها إلى ضعف التدبير والتسيير وغياب الإمكانات فقط، بل إلى ترسيخ عقلية المحافظة والتقليد، وهو ما يدعو إلى ضرورة تحرير الذهنيات».
يعكس دستور المغرب الحالي اختلال توازن القوى القائم بين السلطة والأحزاب. وحيث إنه لم يحصل أي تغير في ميزان القوى، فلن يجري تغيير دستوري. قد يقع تعديل سطحي كل عقد، لكن في العمق، سيستمر الوضع على توازن سكوني، لأن النخب منقسمة بين الأصولية والأصالة والمعاصرة، ولأن الأحزاب كثيرة جداً وضعيفة، ولأن الحقل السياسي المغربي غير موحد وغير مدمج بالكامل حسب البرفسور عبد الله ساعف... كل هذا يجعل من وجود ملك قوي ومهيمن مسألة مصيرية. هيمنة الملك أفضل من تناحر الأخوة الأعداء: يقول عبد الله العروي: «كانت الحركة الوطنية من ناحية تريد تغيير فحوى المخزن (السلطة الحاكمة في المغرب)، ومن ناحية أخرى كانت تخاف الذهاب إلى أقصى حد، خوفاً من انهيار هذا المخزن». الخائفون أكثر من المجددين. التغيير في المغرب، ليس غداً إذن، وفي الانتظار يمكن ملء الفراغ بالمزايدات اللفظية.
* صحافي مغربي