أنسي الحاجلن يأخذ الفقراء حقّهم من الأغنياء. لم يحصل فكيف يحصل. لا بدّ من غيرهم لتبديل الوضع. أقصى ما يفعله الفقير هو الالتحاق بحركات اليأس إشباعاً لثأر وإذا به ينتقم من نفسه. انظروا الحالات المريعة من البؤس في طرابلس ومناطقها البائسة. انظروا إلى المعازل الفلسطينيّة. إلى الأطراف المحكومة بالتجاهل. إلى المتسوّلات والمتسوّلين في شوارع بيروت، لا محترفي التسوّل من الذين تُشغّلهم شبكات، بل أهل التسوّل الحقيقي من نساء غلبتهنّ حاجات أطفالهن وترمّلهن فكظمن كبرياءهن ونزلن إلى الشارع للاستعطاء. أو من رجال طردهم «الاستملاك» من بيوتهم. هنا نرى عزلة اليائس. كفاح الفقير. يأخذ الضربة بصدره ويرتمي على ركبتيه أو جبينه يطلب المغفرة عن خطاياه!
ولا تُذكر طرابلس إلّا يتبادر إلى الذهن مليارديروها. صنف آخر من العدالة: جياع ومخذولون بعشرات الألوف إن لم يكونوا بأكثر من هذا كثيراً، في أزقّة وأكواخ تقشعرّ لها الأبدان، وفي بؤر من البؤس قد تتسلّل إليها أشعّة الشمس ولكنْ لم يراودها يوماً بصيص أمل بدفء اهتمام ينتشلها من قهرها. حضيض بلا قاع، وأثرياء يغدقون العطاء في الزكاة وفي الانتخابات، وربّما عبر جمعيات إحسانٍ لم نعرف أن الفقر تراجع معها في مكان بل نعرف أنه ازداد، والخير والإحسان، في مجتمع مخلَّع كمجتمعنا، دعامتان من دعائم استقرار طبقيّة بادت في مجتمعاتها وإذا هي تَنْبت في ربوعنا أشدّ فتكاً واكفهراراً ممّا عرفته المجتمعات الطبقيّة القديمة.
وحالة بيروت ليست بأفضل كثيراً، وإن تبرّجت بالمساحيق وتقنّعت بالتنانير القصيرة. هل يعرف فقراؤنا، المتزايدة أعدادهم ساعة بعد ساعة، كم عدد مليارات الدولارات التي يملكها أرباب السلطة في لبنان؟ وعلى حواشيهم أربابهم أو شركاؤهم من خارج السلطة؟ هل هناك مكتب استقصاء يتجرّأ ويُجري استطلاعاً وراء الحُجُب وفوق القمع وخارج خدمة الزعماء والرؤساء والأحزاب والمتسلّطين والمافيات، ليقول لشعب الجاليات اللبنانية المرتهنة لمستعمليها من الدول، مَن هم مصّاصو دمهم، كم يملكون، كيف حصّلوا ثرواتهم، وبماذا ينتفع بها بلدهم وأبناؤه؟ هل يجرؤ منبر إعلامي على إذاعة تحقيق كهذا، بالأسماء والأرقام؟ أم يظل الصحافي والنائب الطفران وطالب السلطة يهددون بسؤال «من أين لك هذا؟» حتى تصلهم رشوتهم فيسكتوا؟
■ ■ ■
لما كنت في جريدة «النهار» حاولت أن أقنع بعض الزملاء من كُتّاب القصّة، وعلى رأسهم الياس خوري، بإيلاء هذه القضية حقّها من اهتمامهم الكتابي. وتحت اسم مستعار كتبت أحرّض على تأليف القصص الشعبية المسلوخة من أضلاع الواقع، والتي واقعها أفظع وأخصب من أي واقع، وكلّ ما حصدتُه استحسان بعض الفنّانين والفنيّين والعمّال في الجريدة، خصوصاً حين رحت أختار لبعض المشاهير أقوالاً في البؤس والفقر، فيقرأها الزملاء قبل القرّاء وتكفيهم، لرفعة أخلاقهم، مؤونة الارتياح من كدحِ يومٍ ثمرُهُ دماؤهم.
كنت أتطلع إلى رواية شعبيّة، شعبيّة لا بأسلوب تسليتها وحبسها الأنفاس على خلفيّة جريمة، ولا على خلفيّة تاريخيّة أو سياسيّة، بل على أساس الواقع الحي المختبئ وراء شواهق العمارات وبين شعشعة المطاعم ودخان نراجيل المقاهي وزعيق راديوات سيّارات أبناء الذين لم يتعبوا بسيّاراتهم ولا بأبنائهم.
كنت أفكر في «بؤساء» فكتور هوغو أو «حضيض» غوركي أو «أسرار باريس» لأوجين سو. وفي الكثير من روائع القصة الأميركيّة. مَن لم ينزل إلى حيث غاص هؤلاء لن يصعد. معموديّة الرواية هي الفلّاح والعامل، البغيّ والغبيّ، السجين والجلّاد، السارق والقاتل، الشرطي والقاضي، المحكوم ورفاق القاووش، الدائن والمدين، الشحّاذ والمخمور، الأطفال الذين يغدون صباحاً إلى المدرسة بلا نَفْس، مسلوخين عن أهلهم، حاملين حقائب تزيد عن وزنهم، حزانى بترويقة حزينة، يدرسون منهج أشغال شاقّة، ليَطْلَعوا صفّاً، ثم صفّاً، فصفّاً وصفّاً إلى آخر السلّم، حيث يتخرّجون إلى الهجرة أو البطالة، إن لم يكن إلى الكفر والخيانة، إن لم يكن إلى الجريمة.
ومَن يريدنا أن نصدّق أن أصحاب المليارات في لبنان حصّلوا ثرواتهم الطائلة لأنهم أفضل علماً وأكثر كفاءة وأنزه أخلاقاً من مئات ألوف التلامذة والطلّاب الذين تخرّجوا كلّ هذه السنين إلى اليأس من الحقّ؟ هل كلّنا أغبياء ووحدهم ملوك مالنا ومصائرنا عباقرة؟ لنصدّق. يحصل. لماذا لا يفيدون بعبقريّتهم أبناء مجتمع كان إلى بضعة عقود أكثر المجتمعات العربية بناءً ونشاطاً وبحبوحة وفَرَحَ وجود قبل أن يصيّره الحلف الأميركي ـــــ السوري ـــــ الإسرائيلي عنابر لقراصنة الطوائف وقَتَلة الأجهزة وأمرائهم؟ هل الحلف الأميركي ـــــ السوري ـــــ الإسرائيلي يمنع أغنياءنا من الاستثمار في لبنان؟ لماذا، والحال هذه، لا تمنع إسرائيل أثرياء الخليج من الاستثمار في بلادهم؟ أم هي أميركا؟ ولماذا؟ هل تغصّ أميركا بقطرة، وأغنى أغنياء العالم، قربها في أميركا اللاتينية، لبناني من جزّين، ولم يقل أحد إن أحداً يمنعه من التصرّف بماله كما يشاء؟
■ ■ ■
يوم دعوتُ تلك الدعوة الساذجة إلى رواية شعبيّة تكون هي بَطَلَة ذاتها، لم يكن هاجسي البحث عن روائع لخزانة الأدب، بل عمّا يهزّ الوجدان، على أمل ثورة. ولكن يبدو أن منظر البؤس بالعين المجرّدة، أو التحسّس به في الخفايا والزوايا، مختنقاً بين جدرانه أو مرتمياً على الأرصفة، لا يؤثّر، وقد استشرى عدم تأثيره في أعقاب حروب مزّقتنا ولم تترك وتراً ولا عَصَباً إلّا خَلْخَلَتْهما. ومَن نجا وفرّ إلى المهاجر أخذته مشاغله وطواه الفراق. أما الأشرطة السينمائية التي حقّقها بعضهم عن هذه الحروب فربّما قامت بإنجازات تقنيّة أو أتاحت تجاوبات متفاوتة لم تصل إلى حد تشكيل موجات عارمة من التفاعل والانفعال بحيث تسفر عن ثورة اجتماعيّة. لم يُتَح لهذه النكبة مَن يكتبها كما لم يتح لأي من فصول تاريخ لبنان الحافل بالأحداث مَن يُظهّرها على حقيقتها ويسبر معانيها. نحن شعب يتجاهل ذاكرته ولسنا بلا ذاكرة. ما تطلّعتُ إليه كان أن تأخذ القصّة إجازة من مشاغلها الوجدانيّة و«الملتزمة» لا أدري ماذا، لتركّز على لبنان، لتغوص في عتمات الأيّام ووحول اليوميّات، لتغوص على البغض والتعصّب والانجراف والتشلّع والإجرام والعمالة والتبعيّة والخيانة والاستباحة والدعارة والأمراض والمخدّرات والزنى العائلي، وأخيراً الإرهاب المزوّر. إلى فتح الأبواب المغلقة على قهرها وهلاكها وهلاكنا. إلى تصوير حياة عائلات، أعداء، أفراد، وعلاقاتهم، وازدواجيّتهم بين تعصّب ديني وزندقة، ومحافظة أخلاقيّة ومعاشرة قاصرين، ووطنيّات لو أسقطناها على بلد واحد لأصبح لنا عشرون بلداً. أن يصوّروا ويَنبشوا ويبحثوا عن الوحدة وراء الأجزاء، عن قطعة الخيش الكبيرة ولوحة الخشب الأكبر اللتين ستأويان تلك الأجزاء ووحدتها. كنت أتطلّع إلى ملحمة في رواية، أبطالها لا يريدون الكشف عن وجوههم لأنهم لا آلهة ولا بشر بل سفّاحون كبار وصغار يخجلون أن يُعرفوا وفي الوقت ذاته يريدون أن يُظنّ أنهم هم لأن في ذلك ترقية لنفوذهم وخدمة لهالة سطوتهم. فحيث هم متطلّعون لا مكان لغير القَويّ ولا قوّة لغير الاستهتار بالحياة البشريّة. رواية تدخل إلى عمق المشكلة بين لبنان وسوريا لا منذ فجر المسيحيّة وبولس والأقبية وحنانيا وتوما ومار مارون وميشال عون، بل منذ الهجمات والغارات الأقدم بكثير، بمئات السنين، أيام فينيقيا. وعن هذه العلاقة التي نصفها غرام ومصاهرة ونصفها الآخر تنافر وخوف. وكيف يستطيع السوريّون، نظاماً أو مجموعات وأفراداً، أن يوفّقوا بين التلاعب بلبنان وعبادتهم لصوت فيروز؟ هل فيروز من المريخ وأغانيها من التراث البلجيكي أو الجزائري؟ كيف نخشع لصوت فيروز المفعم بلبنان ونستبيح لبنان؟ هذا السرّ وحده كافٍ موضوعَ رواية. إن الشعوب الأخرى لن تكتب لنا مآسينا، وحبّذا تفعل، ولو دّسّتْ وحَرّفت، فذلك أجدى من لا شيء، وقد يحفز على أفضل.
إذا استمر الفشل القصصي اللبناني في مقاربة جَهنَّمات العقود الأربعة الماضية التي أوصلت لبنان إلى تحت الحضيض ولا يزال معلّقاً بين الأشداق، فمعناه الأول أننا لسنا شعب قصة ولا رواية، ومعناه الثاني أن لا شيء سيجعلنا نتحسّس فظائع ما حصل وفظائع ما نتج عمّا حصل ويحصل، وأننا محكومون بعيش الفواجع وإنتاج الفراغ.
■ ■ ■
قبل يومين أذاعت منظمة الأغذية والزراعة العالميّة (الفاو) أرقاماً لا عن الفقر بل عن الجوع. قالت إن سنة 2008 سجّلت ازدياد عدد الجياع في العالم 40 مليون شخص، وأن العدد الإجمالي للجياع بات يقارب المليار...
مليار جائع من أصل 6 أو 6 مليارات ونصف المليار شخص على كوكب الأرض.
لو كنتُ من الأثرياء ـــــ وما أكثرهم حولنا ـــــ لخفت كثيراً وأنا أسمع هذا الخبر. ومع أني ما أنا، خفتُ كثيراً. خفت على صورة الأرض.
صورة أموات في هيئة أحياء أو أحياء يعايشون موتهم أمامنا ونحن نتظاهر بالاقتناع أن الزمن كفيل إنقاذنا.
لكن الزمن هو نحن، ونحن مساكين كذّابون رُمينا في هذا العالم وحدنا مثل قشّة بين أشداق البحر الأعمى، الهاجم بعضه على بعض، فكيف يوفّرنا؟ لقد اتخذنا من وحدتنا المأسويّة ذريعة لا لدحرها بل لذبح بعضنا البعض، وإن أحسنّا فلِتَجاهُل الضعفاء والضحايا. لا بدّ من حَفْر هذا الوعي في الوجدان حفراً موجعاً لعلّه يفتح ثغرة في جدار البحر الأعمى. لعلّ شيئاً يحدث لهذه الغابة السوداء يُفتّح لونها ولو قليلاً، ولكنْ قليلاً دائماً.
أشعيا النبي في القرن الثامن قبل الميلاد. يقول: «إنّكم أنتم أَتْلَفْتُم الكرْم، وسَلْبُ البائس ما زال في بيوتكم (...) ويلٌ للّذين يَصِلُون بيتاً ببيت ويَقْرنون حقلاً بحقل، حتّى لا يبقى مكان لأحد، فتسكنون وحدكم في وَسَط الأرض ويلٌ للّذين يشترعون فرائض الإثم والذين يكتبون كتابة الظلم، كي يردّوا الضعفاء عن عدالة القضاء ويسلبوا الفقراء حقوقهم، لتكون الأرامل غنيمة لهم وينهبوا اليتامى. فماذا تصنعون في يوم العقاب وفي الهلاك الآتي من بعيد؟ وإلى مَن تلجأون للنجدة، وأين تتركون مجدكم وثروتكم؟».
ويقول على لسان الربّ:
«ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ شبعتُ من مُحْرقات الكِباش وشحم المسمّنات، وأصبح دم الثيران والحُملان والتيوس لا يرضيني حين تأتون لتحضروا أمامي. مَن الذي التمسَ هذه من أيديكم حتّى تدوسوا دياري؟ لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة، إحراقُ البخور مزعج لي. رأس الشهر والسبت والدعوةُ إلى المحفل لا أطيقها، إنها طقوس إرغامية وآثمة. لم أعد أحتمل. وحين ستبسطون أيديكم أمامي سأستر عينيّ عنكم، وإن أكثرتم الصلاة فلا أَسمع. لأن أيديكم ملآنة دماء».
وأيضاً:
«كيف صارت المدينة الأمينة بغيّاً؟ كانت عامرة بالحقّ يَبيتُ فيها البِرّ، وأمّا الآن فالقَتَلَة. فضّتكِ صارت زَغَلاً وخمركِ مغشوشة بماء. زعماؤك أوغاد وشركاء للسرّاقين. كلُّ واحدٍ منهم يحبّ الرشوة ويسعى وراء الهدايا. لا ينصفون اليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم...».
كان أشعيا أحد أكبر أنبياء إسرائيل الأربعة، وأعظمهم رؤيا وأشعرهم وأنثرهم. شاعر المشهد والغيب. لفحة إلهيّة مجبولة بغضب بشري. ثائرٌ راءٍ بمستوى حاكمٍ مثاليّ. قرّع اليهود حتّى لم يبقِ لهم سلاماً إلّا أنذرهم بسقوطه. هم وأعداؤهم. شاعر «الويل الويل» ومع هذا إنجيلي «العمانوئيل» أي «الله معنا»، أكثر الواعدين بمجيء المسيح المخلّص. هل هو أشعيا أسقط رؤى أبصرها، على المسيح الآتي، أم هم الرسل أسقطوا كلام أشعيا على المسيح؟ الموبّخ العنيف، ذو الوعيد المرعب، الصادق الشرس، يأتينا كلامه بعد ألفين وثمانمئة سنة كواحدٍ من غاضبي إسرائيلات اليوم وفينيقياته وأميركاه وأوروباه وسائر الأملاك، بلا تجعيدة على حرف.
مليار جائع. جاء المسيح وأشعيا لا يزال يصرخ. عمّن تتكلَّم يا أشعيا؟ ألم يتعب لسانك؟ أيّها السليط المُنْتقم، ألا تكون أكثر واقعيّة وتُساير الزمن؟ الفساد شريعة الغابة والقَتَلة سادتها. وأنت ونحن الفقراء ملح الكلام الفارغ لا ملح الأرض.
■ ■ ■
خاتمة الكلام: كلُّ شيءٍ مسموع. هكذا كان يقال.
في البحر الأصمّ الأعمى أيضاً؟ فيُجاب: في البحر الأصمّ الأعمى أيضاً.
هكذا كان يقال.
وكان يُقال مثلها عن العين التي لا يفوتها شيء.
العين التي راقبت قايين ورافقته بتوبيخها عبر الأصقاع حتّى غاص في المجاهل وأنشأ المدن والصناعات لينسى ضميره.
العين المحيطة بالمجرّات والأفئدة، هذه العين الجالسة وسط جبين السرمد كجوهرة خضراء، هل ترى اليوم المليار جائع؟ نَمل البشر هؤلاء، الناطقو العظام، الواقفون أمام الكاميرات شهوداً ضدّ الظلم العام، ضدّ السكوت العام، ضدّ الأرض العامة، ضد السماء العامة، أترينها أيّتها العين؟
لا أُذْن تَسمع ولا عين تَرى. الظلم أساس المُلك. والله يبكي.