وصلت عمّان في الظلام، مثلما أتيت بيروت قبل شهور في الظلام أيضاً. لكنّ الليل في طريق الذهاب ليس نفسه ليل الإياب القارس. خمس ساعات أقضيها في الطريق بين المدينتين، وما عدا تأمّل البحر إلى أن يغيب عن نظري أزجّي الوقت بالصمت
نوال العلي
ما إن تجتاز شتوره، ثمة كثير من الفراغ البصري. المرور بدمشق سيكون سريعاً، وما بقي من برارٍ ليس إلاّ نهباً للخلاء يمنح العين فضاءً طلقاً يخفف من رضوض ارتطام البصر بالبنايات المتراصة والأزقة البيروتية الضيقة. مرة سألت صديقاً إن كان يسمّي هذه الجغرافيا العربية الاعتباطية أوطاناً. الفعل وَطَنَ في اللغة يعني أقام في المكان. قد يقال وطن المرء بيروت، أي أقام فيها، ووطنته إن أقامت فيه. وكلما ركبت الطريق إلى عمّان انخلع قلبي من مكان إقامته، حيث يمضي إلى موطن غربته. هنا عرفت أنّ لكل شيء وطناً، حتى الغربة لها موطنها كذلك.
هذه رحلتي أقوم بها كلّ بضعة شهور براً على طريق عمّان ـــــ الشام ـــــ بيروت. لا أوفّق أحياناً في اختيار سائق دمث. يحدث أن أركب مع سائق جديد وغبي، ينسى تغيير زيت السيارة وملأها بالوقود قبل الانطلاق، وحين يتذكر يكون الأوان قد فات، إذ تعلن المحطة الأردنية «لا يوجد بنزين».
أترون؟ الحظ لا يحالفني دائماً في أن أجد سائقي المفضّل. أناديه «أبو جورج»، رغم أن اسمه ليس كذلك. في البداية ظل مثابراً على تصحيح اسمه، ومرةً، بعد أن تعددت أسفارنا، اتصل بي قائلاً «مرحبا، معك أبو جورج»! سيارة «أبو جورج» هي الأسوأ للسفر، «كابرس 1982»، لكن مزاجه هو الأفضل على الإطلاق. كلانا متفق على أن صوت سلوى قطريب هو الأنسب على الطرقات، صوتها مثل ركوب قارب مسرع في بحر مشمس، وكلانا يحب الصمت «على درب بعيدة»، وربما يسأل رفيقي نفسه مثلي ومثل سلوى «شو في خلف البحر خبريات؟».
يختفي البحر، وتبتعد بيروت، فنحن آخذون صعوداً: الكحّالة ثم عاليه، حيث الكثير من البيوت الحجرية القديمة الفاتنة والمتناثرة على جانبي الدرب الضيّق المتعرّج. بيوت مهجورة ومتروكة لجمالها الموحش. أعرف ذلك من زجاج الشبابيك المحطّم أو من الأقفال الصدئة على البوابات، أو من الحدائق التي توحشت والأعشاب التي اعتلت الأسوار. وحدها البنايات الأقل جمالاً تعلن وجودها بآرمات «شقق مفروشة للإيجار». البيوت القديمة أوطان أيضاً، ربما لذلك يجيد الجميع هجرانها. الشقق المفروشة إعلان واضح وصريح عن فتور العلاقة الوجدانية، وعن ترك الساكنين مكاناً بينهم للعابرين لأغراض شتى.
وأنا واحدة منهم، أعبر كلّ مرة وحدي، وأتمنى لو أقضي شهراً أمام هذه الغابات الباردة. اتساع رقعة الأخضر يدير الرأس، كأن يداً امتدت لتغسل بعناية كل ورقة في أشجارها الصنوبرية الباسقة. يوقف أبو جورج السيارة قليلاً لألتقط صورة. أفتش كثيراً عن الكاميرا... «أوف» نسيتها، أضم أصابعي على شكل مربع، أغمض عينيّ وألتقط صورة بعدسة من خيالي.
تروقني قراءة أسماء «الضيع» والأماكن القريبة، وادي شحرور، العبادية، وصولاً إلى بحمدون ثم المريجات، ضهر البيدر فشتوره، وأخيراً نصل إلى الحدود اللبنانية ـــــ السورية في المصنع. كل مرة يسألني ضابط الحدود إن كنت أكتب في السياسة، وكل مرة أنفي ذلك، ويسجّل جوابي. الأختام تكثر على جواز السفر، نجتاز الحدود السورية أيضاً، يسألونني عن عملي، «ربة بيت» أكتب، مذعنة لنصيحة أصدقاء.
لا تكاد تلمح دمشق حتى تختفي. أنت عابر فقط، وهكذا ستكتب على البطاقة الزرقاء التي يعطونها لك. لكنّ رغبتك في المكوث ليوم لا تقاوم. تطلب البقاء، تتوجه إلى جرمانة، حيث تحب النزول في دير إبراهيم الخليل كما فعلت في أيامٍ خوال. لن تخرج من الدير أبداً إلا لشراء الفلافل. تريد أن تبيت ليلة واحدة تراقب الحديقة من شرفة غرفة 505. الأطفال يتصايحون لدى وصول «الميكرو» يقلّهم إلى المدرسة. زعيق الأبواب الحديدية للمحال وهي تفتح يعتلي بلكونتي المفتوحة، يذكّر بضرورة إكمال الطريق.
أضجر مع الغرباء على أتوستراد دمشق ـــــ عمّان. نمرّ بقرية «الكسوة» الصغيرة قبل أن نجتاز ساعة في عبور الطريق الخالي إلى درعا، ثمّ الحدود مرة أخرى، حدود جابر الأردنية، حيث التجهّم المطبق، وتفتيش الحقائب عمل منظم ومتقن، إفراغ السيارة من كل ما فيها وتفقّدها من الأسفل. يحدّقون ملياً إلى وجوه الركاب، ثم يفتحون مصراعي الطريق الصحراوي.
أسوأ ما في رحلتي المرور في طريق مدينة الزرقاء الرمادية. فقيرة، مزدحمة ومغبرة، حتى وهي تلوح من بعيد. نصل إلى منطقة «المحطة»، لا شيء سوى الشاحنات والضجيج وصفوف العمّال ونساء ينتظرن الحافلات بوجوه مثيرة للشفقة.
أما وقد اقتربنا من العاصمة، تبدأ بقايا أشجار الصنوبر القليلة والمعفّرة بالظهور، تذكّرني بصنوبرات عاليه، وهي إذ تتخذ شكلاً مثلثاً بجذوع ضخمة على جبال المدينة، إلا أنّ لها طرازاً مختلفاً في لبنان، حيث سيقانها طويلة ونحيفة فارغة من الأوراق تعلوها خضرة كثّة مستديرة ونضرة.
عمّان سبعة جبال موصولة بأدراج لا حدّ لها. جبلا اللويبدة وعمّان وكانت تسكنهما عائلات بورجوازية من تجار وسياسيين في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ثم تكوّنت المناطق الفقيرة والشعبية بعد الهجرتين الفلسطينيتين، وهي جبال التاج، الحسين، الجوفة، القلعة والجبل الأخضر. نقترب كثيراً من مكان سكني، اللويبدة جارة «العبدلي»، حيث موقف عمّان ـــــ الشام ـــــ بيروت. أطلب من السائق الوصول إلى «دوّار المنتزه» أقدم حديقة عرفتها المدينة الحديثة. يتوقف السائق أمام الطابق الأول من منزل 50، شارع أحمد شوقي، فيروز تصدح من الداخل كالعادة «بتشوف بكرة، بتشوف شو دارنا حلوة». منازل اللويبدة شبيهة ببيوت عاليه، الحجر القديم والقرميد الأحمر وإعلانات الشقق المفروشة والجمال الموحش، والهجران هو نفسه أيضاً.


استراحة نجيب الريّس


استراحة عمو نجيب في «شتوره» محطة لا بد منها. هناك قطة حبلى يدلّلها أصحاب الاستراحة، وتتغنّج هي تحت طاولات المسافرين المتعبين. العرق البلدي، النبيذ، خبز الصاج الطازج، الشنكليش والكشك، واللبنة المعدّة في المنزل ومناقيش الزعتر، كل شيء حميم وبيتوتي. أنظر إلى عمو نجيب وجلد وجهه يتجعّد أكثر في كل مرة أدخل فيها الاستراحة، ولكنّ ابتسامته لا تتبدد. يعرف السائقين كلّهم، وبعض المسافرين. يألفني ويسأل عن الأحوال من دون أن يعرف اسمي أو ينتظر الإجابة.