أحمد الزعتري
أقطع المسافة من منزلي إلى محترف رافع الناصري القريب مشياً، يستقبلني مع زوجته الشاعرة مي مظفر، يعد الشاي الأخضر، ثم نجلس مقابل لوحة أسترق النظر إليها من حين إلى آخر، بينما يتكلم باستفاضة ورضى. لم تكن هناك قصة دفعت بالناصري إلى الفن: «الرغبات الشخصية العميقة تصقل حتى تتحقّق». عائلته المتنوّرة شجعته على خوض هذا المجال. لذا، كان التحاقه بمعهد الفنون الجميلة في بغداد أمراً طبيعياً، منتقلاً إليها من مسقط رأسه تكريت. تخرج من المعهد في التاسعة عشرة، ثم شدّ رحاله إلى الصين لمواصلة البحث والدراسة.
هناك لوّح لماو تسي تونغ عن قرب أثناء جلوسه في منصة الطلاب. «كان ذهاباً إلى المجهول» ـــ يقول ـــ «شعرت بتلاقٍ روحي عجيب يشبه التماهي، فتنتني الفنون الصينية في الرسم والخط. إذ كنا متأثرين بالرسم والتصوير في الغرب. بينما الصينيون يستخدمون الحبر، ويستغلون حيز الرسم بشكل مغاير تماماً، حيث للحيز الخالي من الرسم دلالته».
لم تكن الحياة سهلة هناك، الدراسة القاسية تسعى إلى إيصال الطلاب إلى الحرفية العالمية. تجربة ستؤثر فيه حتى اليوم، كما تفعل اللغة الصينية التي يتقنها جيداً: «استفدت كثيراً من تلك المرحلة لبناء شخصيتي بالتوافق مع البناء الفني».
تخرجه في عام 1963 بشهادة تفوّق من قسم «الغرافيك»، واحتلاله المرتبة الأولى على زملائه من الصينيين والأجانب، سيمنحه منصب أستاذ في المعهد الذي تخرّج منه قبل أربعة أعوام فقط... وإذا بأساتذته القدامى في بغداد، رواد الحركة الفنية: فائق حسن، عطا صبري وخالد الرحّال... يصبحون زملاءه الجدد. يومها قال له الفنان إسماعيل الشيخلي: «بعدك صغير، روح شفلك غير مكان وتعال».
إنّها «محطة مليئة بالحرج والفخر والتداعيات»، كان عليه أن يثبت، من دون بذل جهد واضح، أنه بلغ مستوى فنياً مرتفعاً في دراسته في الصين، استمرّ الحرج والفخر حتى عام 1965، حين أقام معرضاً في المركز الثقافي التشيكوسلوفاكي يومذاك، فكان الاعتراف الحقيقي بنضج تجربته، وبجدارته في الموقع الذي يحتلّه.
تجربة الصين كانت تحتاج إلى نقيضها لتكتمل: الغرب. لم يشعر الناصري بهذه الحاجة قبل أن يصطحبه شقيقاه في رحلة بوهيمية بالسيارة الجديدة إلى أوروبا: من بغداد إلى لبنان عبر الأردن وسوريا، ثم إلى مصر وشمال أفريقيا ومنها إلى إسبانيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والسويد وهولندا. 24 دولة في شهرين سيعملان على تأجيج حاسة الفنان، ومضاعفتها ليرى الفرق بين الفن الصيني والفن في الغرب: «الفن الصيني مرتبط بالواقع والطبيعة بطابع إنساني متواضع». بهرته أعمال عصر النهضة في متحف اللوفر والمساحات الكبيرة، وفُتن بلوحة «تتويج نابليون» للفرنسي دافيد، تلك اللوحة «الملأى بالتفاصيل والمجوهرات والملابس الفخمة والأشخاص حول نابليون الواقف بشموخه».
هذه المشاهد رافقته أثناء دراسة الحفر على النحاس في البرتغال عام 1967، حيث انتقل من الأسلوب الأكاديمي الواقعي إلى التجريدي، ذلك أثناء موجة استعمال الإشارات والرموز في الفن الغربي. ومن هنا، بدأ استعمال الخط العربي في لوحته التجريدية الجديدة وهو ما زال يشتغل على هذه التوجّهات حتّى الآن.
بعد تخرجه عام 1969، سيحمل اكتشافاته الجديدة إلى العراق، ليجد الأجواء مخدّرة بهزيمة النكسة، فيؤسس مع عدد من الفنانين مثل ضياء العزّاوي وإسماعيل فتّاح الترك جماعة «الرؤية الجديدة». وقد أصدر هؤلاء بياناً مؤثراً التزموا فيه بالتراث، لكنهم رفضوا اعتباره قيداً، متطلعين نحو المعاصرة وكسر القيود التي كبّلتها الهزيمة. «كنّا مهزومين، وأردنا إعادة الاعتبار إلى الإنسان والمثقف العربي». خلقت تلك الجماعة حراكاً فنيّاً، فأقيمت المعارض المتخصصة في العراق والخارج، وخرج الفن العراقي عن نطاق المحلية.
بين تلك المعارض واحد يتذكّره رافع جيّداً: في Gallery One الذي امتلكه يوسف الخال في بيروت. عاد زملاء الناصري بعد الافتتاح إلى بغداد، أما هو فقد تعرّف إلى مجموعة من الكتّاب والشعراء والفنانين. «كانت بيروت آنذاك تعيش ذروة كل شيء: الفن، الأدب، السهرات والنقاشات والحرية»، فعاش ثلاثة أشهر مع سركون بولص ورياض فاخوري وغادة السّمان، اختبر فيها الحياة البوهيميّة من النقاشات الوجودية وطقوس جنونية «كانت تأخذنا غادة السمّان إلى المقبرة لنمارس طقوسنا»... يتوقف عن الحديث فنحاول جرّ الكلمات: «أكثر من مجّرد شرب؟». يومئ برأسه وقد منعه ضحكه عن الكلام.
بعد المانفيستو الذي كرّس حضورها، تقرّبت جماعة «الرؤية الجديدة» من جبرا إبراهيم جبرا: «إذا كان جواد سليم ورفاقه في الخمسينيات محظوظين بزمالتهم لجبرا، فقد كنا نحن محظوظين بصداقتنا له طوال خمسة وعشرين عاماً». كان الفنان والناقد والأديب الفلسطيني الراحل (1919ـــ1994) الذي أقام في بغداد منذ الخمسينيات، بمثابة عرّاب للفن العراقي، ويتذكّر الناصري اليوم أنّه لم ينجز مجموعة فنيّة إلا وسأله رأيه فيها.
استمر هذا الفنّان العراقي بعمله في معهد الفنون، مؤسساً قسم الغرافيك ومترئساً إياه حتى تقاعده في عام 1989 لصعوبة التوفيق بين الدراسة والعمل، وأسباب أخرى أسرّ بها إلى أستاذه الصيني في معرض أقامه في بكين: «حريتي ألاّ أقول صباح الخير لأشخاص لا أحبّهم ولا أحترمهم»، ملمّحاً إلى رموز السلطة البيروقراطيّة في معهد الفنون. لكنه يوضح عن تلك المرحلة: «لم يطلب منا حزب البعث لوحات معينة أو بورتريهات لصدّام حسين أو أياً من رموز السلطة... من قاموا بتلك الأعمال فعلوا ذلك بمبادرة منهم بين انتهازيّة وتزلّف وطمع بالجاه والسلطة». يذهب رافع أبعد من ذلك: «الحركة الفنية في العراق بلغت أواخر السبعينيات وخلال الثمانينيات ذروة النضج، كانت في أوجها ووصلت إلى قمة الحداثة، وسارت طبيعياً وبسلاسة، بمعزل عن المصاعب التي أمكن تجاوزها».
كان مشغل الحفر الذي افتتحه الناصري في حيّ المنصور الراقي في بغداد (1987) أكثر من مجرّد مشغل، أقام المعارض الفنيّة والأمسيات الشعرية واللقاءات الفكرية حتى اندلعت الحرب (1991). اتجه الناصري إلى إربد للتدريس في جامعة اليرموك الأردنية، وبعد سبعة أعوام التحق بجامعة البحرين لتأسيس كلية للفنون هناك، لكن من دون جدوى...
منذ عام 2003، يقضي رافع معظم نهاره في المشغل في عمّان. يكرّس بعد الظهر للقراءة والمراسلات، مواصلاً حياته الاجتماعية المتقشّفة. وفي المساء، يتابع الأفلام على الفضائيات: «هناك روتين كبير في حياتي الآن ما عدا وقت السفر». لكنّ السفر ليس دائماً ميسّراً للفنّان حامل الجواز العراقي. فالسلطات الإماراتية لم تمنحه أخيراً تأشيرة دخول إلى دبي لحضور افتتاح معرضه «بوابات» المقام حالياً في غاليري Green Art. وقد رأى الناصري أن هذا المنع «عائد إلى التدهور العربي الشامل».
قبيل رحيله، شاهد جبرا أعمال الرافعي الجديدة، خلال إقامته الأولى في عمّان، فقال له: «لقد أثّرت بك عمّان وأغنت شاعريتك، لكنها ملأتك بحزن شفيف». إنّه حزن المنفيّ، ربما لا تمكن ملاحظته في حضوره، إلا أنه يسرّ إلى من يلتقيهم من حين لآخر، بـهذا «الإحساس الداخلي المطمئِن إلى أنني قريب من بغداد»...


5 تواريخ

1940
الولادة في تكريت (العراق)

1959
بعثة إلى الصين لدراسة فنّ الغرافيك. ثم درس الحفر على النحاس في لشبونة بعدها بثماني سنوات

1969
أسس جماعة «الرؤية الجديدة» مع ضياء العزّاوي وإسماعيل فتّاح وآخرين...

1991
غادر العراق بعد الحرب، مع رفيقة دربه الشاعرة والناقدة مي مظفّر، فدرّس في جامعة اليرموك (الأردن)، ثم سافر إلى المنامة

2008
معرضه «بوابات» حالياً في غاليري Green Art في دبي، لكن في غيابه... لأنّه لم يحصل على تأشيرة دخول إلى الإمارات!