معرضان فُتحت أبوابهما في الموعد السنوي «لأمسية المتحف الوطني» التي تمثّل الحدث الأهمّ لدعم المتحف ماديّاً ومعنويّاً. الأمسية من تنظيم «المؤسّسة الوطنيّة للتراث» التي تشرف على «بوتيك» المتحف

جوان فرشخ بجالي
ليل الثلاثاء الماضي كان حافلاً في المتحف الوطني في بيروت. فقد تخلّلت الموعد السنوي «لأمسية المتحف الوطني» ثلاثة نشاطات في أقل من ساعتين: افتتاح معرض قنطرة لآثار البحر المتوسط، وافتتاح معرض عن تاريخ صناعة الزجاج، وتوقيع كتابين، وعرض فيلم وثائقي جديد. برنامج يحاول كعادته أن يجمع قي آن واحد الثقافة والفن مع بعض الترفيه. فالأمسية تهدف عادة إلى الترويج للمتحف الوطني من جهة، وحثّ المشاركين في الأمسية على «التبضّع» لفترة الأعياد من «بوتيك» المتحف، التي هي المموّل الأساسي لكلّ أعمال الصيانة. لذا تنظّم هذه الأمسية «المؤسسة الوطنية للتراث» التي تشرف على البوتيك، وتؤمّن تصاميم القطع الحرفية التي تصنع خصيصاً للمتحف الوطني. وتتعاون كل من «المؤسسة الوطنية للتراث» والمديرية العامة للآثار على إنجاح هذا «الحدث»، فتنظّم كلٌّ منهما نشاطها بحسب اختصاصها. وقد نظّم القيّمون على المتحف الوطني معرضين لهذا الحدث السنوي: الأول هو «الزجاج عبر التاريخ»، والثاني هو «قنطرة»، المعرض الذي يجول في دول المتوسط.
يتمحور معرض الزجاج حول مدخل المتحف. وقد وُزّعت القطع على خمس واجهات، تعرض تطوّر فن صناعة الزجاج عبر العصور. وهنا تجدر الإشارة إلى جمالية القطع المعروضة التي تبرز نجاح هذه الحرفة في مدن الشاطئ اللبناني، لدرجة أن المؤرخ الروماني «بلين» كان قد نسب اكتشاف الزجاج إلى الفينيقيين. ولكن اليوم، مع تطور علم الآثار، أكّد العلم أن هذا الفن إنما ولد في بلاد ما بين النهرين، وشهد تطوراً لافتاً على مدن الشاطئ اللبناني، وخاصة مع اكتشاف تقنية «نفخ الزجاج»، التي سمحت بإعطاء القطع أشكالاً مختلفة مثل أشكال الحيوانات. وهنا تجدر الإشارة إلى أن حرفة تصنيع الزجاج ونفخه لا تزال «حيّة» في لبنان، وخاصة في منطقة الصرفند، التي عُرفت تاريخياً بصناعة الزجاج المنفوخ. وقد استغلت «مؤسسة التراث» هذا الواقع لإنتاج فيلم وثائقي ضمن سلسلة «نحو اكتشاف المتحف الوطني» من إخراج بهيج حجيج، تحت عنوان «الزجاج من العصور القديمة حتى يومنا هذا». وكباقي الأفلام في هذه السلسة، لا تتجاوز مدة الفيلم عشر دقائق، ويمكن استعماله لأغراض تربوية بحيث «يرى» الطالب بأم العين كيف «ينفخ الزجاج» وتُصنع فيه الأشكال، وكيف تطورت هذه الحرفة عبر الزمن.

في الطابق الأرضي: قنطرة

يندرج معرض «قنطرة» ضمن برنامج «التراث الأوروبي المتوسطي» (Euromed Heritage) الذي يطمح إلى توطيد الجسر بين شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، وبين شرقه وغربه، والإسهام في التفاهم المشترك والحوار بين ثقافات حوض البحر الأبيض المتوسط. لذا، يجمع البرنامج في تنظيمه عدة بلدان شريكة هي الجزائر والأردن ولبنان والمغرب وتونس وإسبانيا وفرنسا، مع بلد ضيف هو مصر.
يستهدف مشروع «قنطرة» بوضوح الهوية المتوسطية بوصفها هويّة موحِّدة وتضامنيّة تبرز قيمتها من خلال التراث المشترك. فخلال القرون التي يتناولها المشروع منذ نهاية العصور القديمة المتأخرة وظهور الإسلام، وحتى القرن التاسع عشر، انتشرت قِيمٌ عرفت دمجَ مساهمات العصور القديمة ولا سيما أسسها الفلسفية الأولى. وعرف المتوسّط دائماً الاغتناء من هذا التنوع، ولم تتوقف التجارة والتبادل في أرجائه حتى في زمن الحروب. ويسمح هذا المشروع في شكله، بتقويم الموادّ والفنون والأفكار، وإدراك أصولها الممتزجة. وقد اختيرت ثلاث وسائط إعلامية أساسية للنشر: موقع إنترنت يحوي مركز معلومات عن ألف عمل معماري وموادّ تراثية يمكن الاطّلاع عليها على مستويي الجمهور العام والاختصاصيين؛ ومعرض متعدد الوسائط الإعلامية ـ سبعة معارض في الواقع تقام في الوقت نفسه في سبعة بلدان ـ وأخيراً الكتاب. ولقد أعدت مادة الوسائط المختلفة كلها بلغات أربع هي العربية، والإنكليزية، والإسبانية، والفرنسية.
يشغل معرض «قنطرة» الطابق الأرضي من المتحف الوطني، وهو مقسَّم ثلاثة أجزاء. يتوسط القاعةَ معرض صغير لقطع أثرية (حلي، فخاريات، خزفيات) تعود إلى الفترات الإسلامية والعثمانية المكتشفة في لبنان. أمّا الأطراف، فتشغلها لوحات كبيرة تشرح مواضيع المعرض الأساسية، وتظهر تداخل الثقافات في حوض المتوسط. وإن لم يكن الزائر راغباً في القراءة، فقد أرفقت كل لوحة بتلفزيون كبير يعرض باستمرار الأفلام الوثائقية التي أنجزت خصيصاً للمعرض، والتي تشرح في أقل من عشر دقائق مواضيعه الأساسية: الديانات، العلوم، التجارة والفن، الحرب، السلطة والدبلوماسية.
صُمِّم معرض «قنطرة» ليتماشى مع متطلبات المتعلمين الصغار السن، ولكي يستعمل أداة تربوية في المدراس. والجدير بالذكر أن المعرض موجود بتفاصيله على شبكة الإنترنت لدرجة أنّه أصبح مرجعاً علميّاً في مواضيع التراث والأبنية التاريخية، ويمكن تحميل كل المواد الموضوعة عليه من دون أي مقابل، لنشر العلم والثقافة. فحتى الأفلام الوثائقية يمكن تحميلها وعرضها.
معرضا «الزجاج» و«قنطرة» مستمرّان في المتحف الوطني في بيروت حتى 16 من شهر شباط المقبل. لمزيد من التفاصيل، يمكن الاطّلاع على الموقع الإلكتروني: www.qantara-med.org

توثيق ثلاثي الأبعاد للمواقع الأثرية



وصلت هبة الأمم المتحدة لقطاع الآثار في لبنان على شكل دعم لقطاع التراث والآثار بعد حرب تموز 2006. الهبة عبارة عن مجموعة من الأجهزة المتخصصة التقنية بقيمة 300 ألف دولار وسيارة رباعية الدفع. وقد سلّم مدير مكتب منظمة اليونسكو الإقليمي في بيروت الدكتور عبد المنعم عثمان، ومسؤول قطاع الثقافة في المنظمة جو كريدي، القطع إلى المدير العام للمديرية العامة للآثار المهندس فرديريك الحسيني، بحضور مديرة مكتب وزير الثقافة مروة عكاري. ستستعمل القطع الجديدة لإنشاء بيانات رقمية ثلاثية الأبعاد، دقيقة وعالية الوضوح، باستخدام تقنيات التوثيق الرقمي وتحديد أماكن الخطر في المواقع الأثرية المصنفة على لائحة التراث العالمي لليونسكو. وسيبدأ العمل بجولات ميدانية في معابد بعلبك الرومانية، على أن يُعمل لاحقاً على باقي المواقع المصنفة على لائحة التراث العالمي (صور، جبيل، عنجر). وستمثّل المعلومات الثلاثية الأبعاد والموثقة أرشيفاً دقيقاً للمواقع في فترة إنشائها، ما سيسمح لاحقاً بإعطاء تقارير تفصيلية عن أي ضرر يلحق بهذه المواقع جراء حروب أو هزات أرضية... وسيساعد المشروع على بناء قدرات الموارد البشرية المعنية بالمحافظة على التراث الثقافي المادي وبتنميته وتعزيزه في لبنان. ويمثّل موظفو المديرية العامة للآثار الفئة الأساسية من العاملين في المشروع، بعد أن يتابعوا دورات تدريبة متخصصة على كيفية استخدام هذه الأجهزة.
تجدر الإشارة إلى أن هبة اليونسكو لقطاع التراث إلى لبنان اقتصرت على هذه الأجهزة، بعدما حدد تقرير الخبراء عن أضرار الحرب عدم امتلاك لبنان بيانات تفصيلية عن حال المواقع عرقل عملية تقييم الأضرار على مواقع التراث العالمي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن تقرير البعثة تلك لم يأخذ بعين الاعتبار الأضرار التي وقعت في قرى الجنوب الحدودية، وخاصة من تدمير للأبنية التراثية والقلاع والمواقع الدينية.