تمنّعت الدولة عن دفع تعويضات لمهجري ثكنة غورو في بعلبك، فبقي هؤلاء منذ عقود، رهائن ظروف معيشية وإنسانية صعبة جداً، تبدأ من الوحدات السكنية والتخاشيب المتهالكة التي يقطنونها، ولا تنتهي عند البطالة والمرض و..أمية الجيل الجديد لضيق ذات يد الأهل الذين لا يزالون ينتظرون مجرد 5 آلاف دولار لإعادة تأسيس حياتهم. لذلك يبدو أن عنوان المرحلة المقبلة عند هؤلاء «الاعتصام فالثورة»
البقاع ــ رامح حمية
تحلم زينب نون ابنة 18 ربيعاً، بأن تغادر «ثكنة غورو» في بعلبك، هي التي ولدت وترعرعت فيها، حتى يصبح لها منزل خاص يحتضنها وأهلها وإخوتها السبعة، لا تتسرب من بابه وسقفه أمطار الشتاء وبرده القارس. تحلم المراهقة بغرفة خاصة، بمطبخ وحمام تتعدى مساحتهما نصف المتر المربع. زينب «الشاطرة» تخلت عن مدرستها منذ 4 سنوات «كرمى لتعليم إخوتي، فوالدي غير قادر على تأمين النفقات التعليمية لنا جميعاً».
مشهد ثكنة غورو الواقعة خلف قلعة بعلبك الأثرية، استثنائي بامتياز. يظهر ذلك في أبنيته الصفراء المتهالكة، وتخاشيبه الصغيرة المغطاة بألواح «زنك» يجمع بينها الشكل الموحد من جهة، وتسرب مياه الأمطار إلى داخل الغرف من الأسقف المغطاة بالنايلون.
ولمجرد دخولك إلى «الثكنة الفرنسية» المسماة على اسم جنرال الانتداب، تتراءى لك مظاهر البؤس. فأكثر من 300 عائلة لبنانية، يعيشون تحت «خط الفقر» في الثكنة، بعدما هجروا إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 من منازلهم في الفنار وبياقوت والجديدة والمتن والرويسات. وعلى مساحة تقارب 26 ألف متر مربع يقطن أكثر من 3000 نسمة في ما يسمى وحدات سكنية، وكل وحدة عبارة عن غرفة واحدة ومطبخ صغير جداً وحمام لم تتسنّ لنا رؤيته حقاً نظراً للعتمة القاتمة التي تلفه. أما الغرفة فيتقاسمها أفراد العائلة «بشرشف» أو قاطع خشبي، وإن دعت الحاجة فالنوم سيكون بالتأكيد «راس وكعب».
وقد صدر قرار عن مجلس الوزراء حمل الرقم 34/2001 قضى بإخلاء الثكنة وتحويلها إلى سرايا حكومية لمحافظة بعلبك الهرمل العتيدة، بعد نقل ملكيتها من وزارة الدفاع الوطني لمصلحة الجمهورية اللبنانية.
رئيس بلدية بعلبك بسام رعد أكد لـ«الأخبار» أن بلدية بعلبك ومجلس الإنماء والإعمار راجعا رئاسة مجلس الوزراء ووزارة المهجرين مراراً لحل مشكلة مهجري الثكنة وصرف تعويضاتهم «إلا أننا لم نحصل على جواب شافٍ». وأوضح رعد أن مكتب التعاون الإيطالي الذي قدم مبلغ مليون ومئة ألف يورو لترميم أماكن أثرية، بما فيها الثكنة، قسم المشروع في الثكنة إلى 3 أقسام: دوائر رسمية وتربوية وأخرى سياحية. «إلا أن الشرط الأساسي من الجانب الإيطالي لبدء التنفيذ هو إخلاء الثكنة من المهجرين»، علماً بأن «تعويضات مهجري الثكنة لا تتجاوز مليوني دولار، وهو مبلغ ليس بكبير، والبلدية ليس بمقدورها تغطية هذا الملف».
ولفت رعد إلى أن مجلس الوزراء «مطالب بإنهاء ملف مهجري ثكنة غورو، لأن التأخير سيخسرنا مشروع الإرث الثقافي»، وأضاف: «حتى لا نخسر المبلغ، وبالتنسيق بين البلدية ومكتب التعاون الإيطالي والسفارة الإيطالية، قررنا ترميم مبنى السرايا الحالي في بعلبك وبناء مبنى للبلدية ومشاريع أخرى إذا لم يبت الأمر بسرعة».
رئيس لجنة المتابعة والعلاقات الاجتماعية في الثكنة عبد الكريم نون أكد لـ«الأخبار»: «أن وضع العائلات الإنساني والحياتي في الثكنة سيئ جداً، وظروف المعيشة فيه قاسية، حيث لا مصالح ولا موارد رزق، والجميع ينتظر المساعدة الوحيدة التي تصل لنا من جمعية الإمداد الخيرية». ويضيف نون: «لا مياه ولا مازوت، والجميع لم يرسل أولاده إلى المدرسة لعدم القدرة على ذلك، كون الغالبية مرضى، والرعاية الصحية أيضاً تقع على عاتق جمعية الإمداد». ولفت إلى أن المهجرين ما زالوا بانتظار التعويضات العادلة من وزارة المهجرين كي يغادروا هذا المكان، مشيراً إلى أنه منذ عام 1995 أعدّت وزارة المهجرين كشوفاً وإحصاءات بعدد المهجرين وقيمة التعويضات (5 آلاف دولار للوحدة السكنية)، كما زارتنا العديد من اللجان من الوزارة، وأجرت المزيد من الإحصاءات. لكن إلى اليوم ما زلنا نواجه التسويف والمماطلة، فيما الوضع الإنساني من سيّئ إلى أسوأ»، وأضاف: «لو استمرت المماطلة فسنلجأ للاعتصامات قريباً، ومن بعدها فلتكن ثورة. فالظلم كبير ولا بد من مساواتنا بغيرنا من الناس!».
جولة بين أزقة الثكنة ووحداتها السكنية كافية لتتأكد من أن البؤس لم يترك منفذاً إلا دخل منه إلى القاطنين. فالحاجة بهيجة شعيب (52 عاماً)، المهجرة منذ الاجتياح الإسرائيلي (1982)، تقطن في تخشيبة سقفها من الزنك والنايلون، وبابها لفّ بالخيش حتى لا يتسرب منه الهواء. تختصر حياتها اليومية بالقول: «فقر وشحار وتعتير لا ماي ولا كهربا يا إبني، الناس عم تموت من الجوع والمرض وما حدا عم يسأل عنا»، مضيفة «صار الموت أشرف من هالعيشة، كل ما شتت الدني بدنا نلحق نقط الماي بالسطل حتى نقدر نمدّ ونام»، وتتابع «الدولة دايماً عم توعدنا بدفع التعويضات من 1995 والظاهر كله كذب ونفاق و5 آلاف دولار ما عادوا يعملوا شي هالايام»، وعما إذا كانت تتطالب بشيء قالت: «ما بدنا إلا الشفقة والرحمة بس!».
من جهتها، نوال رباح (43 عاماً) مهجرة منذ عام 1976 أصرت على تصوير النايلون الذي يلف سقف وحدتها السكنية التي تتألف من غرفة لا تتجاوز 3 أمتار مربعة، اختزلت منها متراً مربعاً واحداً لوضع رفوف المؤونة الشتوية وغاز صغير للطبخ. وتشير نوال إلى أن زوجها لا يعمل، كونه مصاباً بالـ«ديسك وما بيقدر يتحرك ويشتغل». أما أولادها الثمانية فلا يذهبون للمدرسة بسبب عدم توافر القدرة المالية.
وأمام هذا الواقع يبقى السؤال: متى ستحل مشكلة المهجرين في لبنان عموماً، وفي ثكنة غورو في بعلبك خصوصاً؟ أم سنشهد دوماً ولادة أجيال جديدة يلفها المرض والأمية بسبب تمنع الدولة عن دفع مبلغ يسمح للناس بإعادة بناء أساس، مجرد أساس، لحياة جديدة؟