تنهمك السلطات القضائية والأمنية في مكافحة سارقي السيارات بينما تساوي قيمة ما تحصّله مجموعات الجريمة المنظمة في لبنان مليارات الدولارات دون أن يُعلن أحد الحرب عليها. قاض مكافح للمافيا في إيطاليا تحدّث لـ«الأخبار» عن ضرورة توافر الإرادة السياسية الجدّية لهذا. مع غياب ذلك لا مفرّ من «التأجيل»... حتى إشعار آخر
عمر نشابة
تحدث نائب المدعي العام الإيطالي الخاص بمكافحة المافيا القاضي الدكتور جيوستينو سياكيتانو في سان ريمو لـ«الأخبار» عن عوامل القوة في نجاح السلطات القضائية والأمنية الإيطالية في حربها على الجريمة المنظمة. وعندما طُلب منه، على أساس خبرته الطويلة وكفاءته المهنية والأكاديمية، تقديم رؤيته لما تحتاج إليه السلطات القضائية والأمنية اللبنانية للنجاح في مكافحة المافيا، شدد سياكيتانو على ثلاثة عناصر أساسية هي نفسها التي يعتمد عليها مكتب الادّعاء الإيطالي: احتراف فريق المحققين وتوافر الإرادة السياسية الموحّدة، وأخيراً التعاون الإقليمي.
الضابطة العدلية القويّة
تحدث سياكيتانو أوّلاً عن كفاءة الضابطة العدلية ومكتب الادعاء وحداثتهما ومهنيتهما، إذ إن المافيا تتمتع بإمكانات تقنية وعملية متطورة، وبخبرات جنائية عميقة وهي متغلغلة في العديد من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية والدولية. يفترض إذاً أن يتمكن المحققون من تعقب محترفين في الإفلات من الملاحقة، ما يفرض عليهم تطوير قدراتهم.
غير أن الكفاءة المطلوبة تغيب عن مكاتب النيابات العامة وعن ضباط الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة ومخابرات الجيش ورتبائها وعناصرها. ولعلّ أبرز ما يشير إلى ذلك هو قلّة احتراف أجهزة الضابطة العدلية في استثمار مسرح الجريمة، وضعف قدرتها على استكمال ملفات التحقيق في جرائم هامة عبر تدعيم الخلاصات بأدلة جنائية تتناسب مع المعايير القانونية.
الإرادة السياسية الجدّية
شدّد القاضي الإيطالي ثانياً، على إرادة صلبة للسلطة السياسية العليا لمكافحة الجريمة المنظمة. وتترجم تلك الإرادة عبر الدعم السياسي والمادي والمؤسساتي الكامل لقرارات السلطة القضائية المستقلة دون استثناء. ولا جدوى من اتخاذ أي خطوات لمكافحة الجريمة المنظمة، مهما بلغ مستوى جدّيتها، بدون التفاف القوة السياسية الحاكمة ديموقراطياً حول القضاء المستقلّ. إن عدم توافر ذلك لا يؤدي إلى فشل تعقب المجرمين الأساسيين فحسب بل يعرّض القضاة وضباط الشرطة لاتهامات بالانحياز السياسي المعاكس للسلطة الإجرائية.
يتعذّر توافق أعضاء أعلى سلطة إجرائية في لبنان ــ مجلس الوزراء ــ على اختيار أعضاء المجلس الدستوري الذي ينظر في شرعية القوانين، وهي مهمة تُعَدّ أساس الأساس في المسار العدلي، كما تتصادم التيارات والقوى السياسية داخل المجلس على أبسط الشؤون الخدماتية في شتى القطاعات. من الطبيعي إذاً تعذّر التوافق السياسي على مكافحة الجريمة المنظمة بجدّية وثبات، إذ إن نشاط المافيا في لبنان لا يمكن أن يستمرّ بدون ضلوع أشخاص نافذين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً في أعمال مخالفة للقانون.
التعاون الإقليمي المستمرّ
ثالثاً ذكر سياكيتانو التعاون القضائي والاستخباري والأمني مع الدول المجاورة، إذ إن الجريمة المنظمة تعتمد على التواصل والتعاون بين الشبكات الجنائية العابرة للحدود. وهنا شرح القاضي الصعوبات التي قد يتعرض لها هذا الجانب الأساسي من عملية مكافحة الجريمة: بعض الدول تتحفظ عن التعاون مع طلب تزويد مكتب الادعاء العام بمعلومات عن أشخاص أو مجموعات ونشاطات جرمية وقعت على أراضيها وغيرها من المعلومات التي يراها مكتب الادعاء قيّمة لتقدم التحقيقات. إن أحد أسباب ذلك يعود إلى الحساسية السياسية، والحذر الشديد من تجاوز السيادة الوطنية.
تغييرات في الجريمة المنظّمة
«تغيّرت الأوضاع، إذ انتهت مرحلة تهريب المخدرات من لبنان إلى جزيرة صقلّية الإيطالية، ومنها إلى أميركا بعد تصنيعها وتوضيبها» قال سياكيتانو. «الجريمة المنظّمة شهدت تغييرات في هيكليتها وفي طبيعة نشاطها إذ بات تهريب الأشخاص والاتجار بالبشر أحد أبرز التجاوزات الجنائية». وشرح القاضي الإيطالي أن أبرز عمليات تهريب الأشخاص تجري بين الصين عبر روسيا إلى الشرق الأوسط، ومنه إلى حوض البحر الأبيض المتوسط باتجاه السواحل الأوروبية. «ويتعامل المهربون مع الشخص المتاجَر به كما يتعاملون مع مستوعب يحتوي أفيوناً».
أثار القاضي الإيطالي تصاعد الجريمة المنظمة العابرة للحدود مقابل تراجع نشاط المافيا الدولية الجنائي الكلاسيكي.
وعرّف سياكيتانو الجريمة المنظمة العابرة للحدود بمجموعات تضم أشخاصاً من جنسيات مختلفة يعملون انطلاقاً من عدد من البلدان على تنسيق عمليات تهريب أشخاص و/أو الاتجار بهم وتهريب البضائع ومواد ممنوعة وسلاح. وتقوم كل مجموعة بمهمّاتها غالباً دون علم شركائها في المجموعات الأخرى (Compartmentalization). يُصعّب ذلك على المحققين الجنائيين جمع المعلومات عن النشاط الجرمي المنظم العابر للحدود عندما تقع إحدى المجموعات في قبضتهم.
في المقابل، تعمل منظمات المافيا الدولية ضمنها رئيسياً، بحسب القاضي الإيطالي، أشخاص تربط بعضهم ببعض علاقة تواصل وتعاون وثيقة تكون أحياناً عائلية أو مناطقية.
في لبنان يبدو أن أبطال الجريمة المنظمة متماسكون ومتوافقون أكثر من السلطات الرسمية حتى لو كان بعضهم جزءاً منها. فيختلف مع زميله في السياسة والاقتصاد، وتقاسم ثروات الدولة (أو ما بقي منها) ويتّفق معه في عمليات الجريمة المنظّمة.


مليار ونصف مليار دولار

في منتصف عام 2003، انهار بنك المدينة بعدما تبخّرت منه أموال بلغت نحو 1.65 مليار دولار، ووردت أسماء العديد من المتورّطين. وقد شملت لائحة المتهمين أكثر من 90 شخصية سياسية وأمنية وعسكرية ومالية وحتى قانونية. وكانت رائحة عمليات تبييض أموال تمارسها شخصيات على علاقة وطيدة بهذا المصرف قد بدأت تفوح منذ 2002. تحرّكت لجنة الرقابة المصرفية، إذ إن البنك كان يدفع نسبة فوائد للمودعين ليس بمقدور مصارف المرتبة الأولى دفعها. أوقف عدد من المشتبه فيهم، ورافقت التوقيفات شائعات عن شبكة وألغاز أحاطت بقضية هذا المصرف وأمواله، لكنّ التحقيق لا يزال من دون نتائج.