بشير أبو منة *كانت ردة فعل إدوارد سعيد على توقيع منظمة التحرير على اتفاقية أوسلو لاذعة وصريحة، عندما عبر عن رأيه بنخبة منظمة التحرير قائلاً: «لم يسبق لأية حركة تحرير في التاريخ أن باعت نفسها لأعدائها كما فعلت نخبة منظمة التحرير الفلسطينية». ما سبب ذلك؟ ما الذي أدّى إلى استسلام نخبة حركة «فتح» وتخاذلها بهذه الطريقة؟ وهل توافر خلال فترة النضال أي بديل يساري عن مركزية حركة التحرير الفلسطينية وتخاذلها؟
لا داعي للتذكير أولاً، بأن إسرائيل هي سبب معاناة الشعب الفلسطيني أصلاً، وانتهاك حقوقه الوطنية. لا يمكن لأي انتقاد أو تقييم نقدي للحركة الوطنية الفلسطينية أن يغيّر من هذه الحقيقة الواضحة أو يقلّل من أهميتها.
ما هي إذاً أسباب استسلام القيادة الفلسطينية؟ أعتقد أن وصف إدوارد سعيد لاتفاقية أوسلو أعلاه كان وصفاً صحيحاً. فشلت هذه الاتفاقية في إنجاز أية حقوق وطنية فلسطينية: لا سيادة وطنية حقيقية، لا حق تقرير المصير، ولا الدولة التي سعت منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1974 لإنشائها في الضفة الغربية وغزة.
لماذا إذاً وافق ياسر عرفات على اتفاقية أوسلو وهو يعلم أنها لا تتوافق مع المطالب الوطنية الفلسطينية؟ برأيي، كان الحافز الرئيسي انتهازيته، ورغبته في الحفاظ على مركزه. اختار استغلال الانتصارات التي حقّقتها الانتفاضة لتحقيق مكاسب سياسية في مفاوضاته مع إسرائيل. وضمان السيطرة التنظيمية على الفلسطينيين.
لقد تمزقت منظمة التحرير بعد بيروت 1982 وتشتّتت كوادرها، وخسرت قدراتها العسكرية والتنظيمية، وفقدت تجانسها التنظيمي. وكان سقوط بيروت رمزاً لتدمير الحركة الوطنية الفلسطينة ونهاية الحكاية الفلسطينية. وفوق كل هذا، أدّى النظام العالمي الجديد، وقرار عرفات الكارثي والعشوائي بمساندة صدام حسين، إلى فقدان المنظمة دعم دول الخليج المالي، ممّا أدّى إلى إضعافها إلى حدّ أكبر. ونتيجة لذلك، وبحلول التسعينيات، وصل عرفات إلى درجة من اليأس كان مستعداً بسببها للتضحية بشعبه مقابل ضمان الاعتراف الدولي بسلطته ومركزه حتى لو كان ذلك في شبه دولة.
هناك إذاً خليط من العوامل أدّت إلى هذه الانتهازية والهزيمة:
أولاً: وحشية إسرائيل وعنفها المستمر وتجاهلها لكل إمكانات السلام. هذه قضايا أساسية. كانت إسرائيل ولا تزال تتمتع بقوة وقدرات عسكرية تفوق بمرات عديدة أية قدرات يتمتع بها الفلسطينيون. لم تسعَ إسرائيل إلى تطهير فلسطين عرقياً فحسب، بل سعت أيضاً لتدمير أية حركة وطنية يسعى الفلسطينيون لتنظيمها بهدف استعادة وطنهم.
ثانياً: المناخ السياسي العربي المعادي الذي فرض قيوداً بنيوية على الشعب الفلسطيني في المنفى. لقد عانت الحركة الوطنية الفلسطينية ضغوطاً وعراقيل كبيرة فرضتها عليها الحكومات العربية. يمثّل الأردن في عامي 1970ـــ1971 أفضل مثال على ذلك: نظام حكم سلطوي يدعمه الغرب يعمل على تصفية المقاومة الفلسطينية على مرأى من الدول العربية.
منظمة التحرير الفلسطينية لم تتمتع بالدعم والمساعدة الكافيين واللازمين لبناء منظمة تستطيع أن تتصدى للمشروع الصهيوني. قارنوا هذا الوضع بوضع حزب الله اليوم. بفضل وجوده ضمن قاعدة دعمه وعلى أرضه (وبوجود قيادة قوية ملتزمة)، وبفضل حصوله على دعم خارجي هائل مادياً وتدريباً، نجح في تحقيق ما لم تنجح في تحقيقه أية دولة عربية: هزم الجيش الإسرائيلي. لم يحصل الفلسطينيون طوال تاريخهم المعاصر على أي من هذا، بل عانوا العكس من ذلك: النفي والاضطهاد والتدمير. إضافة إلى ذلك، تسببت أموال النفط في انتشار الفساد في المنظمة وتهميش مساعيها الثورية. لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية أثرى حركة تحرير في العالم الثالث، وهذا شيء محزن.
يجب أن نعتبر أن الفشل في تحرير فلسطين يمثّل جزءاً مما دعاه عبد الرحمن منيف «ثقافة النفط».
ثالثاً: العامل الذاتي. رغم أنّ الظروف البنيوية زادت من إمكان النزوح نحو الانتهازية والانهزامية، لا نزال بحاجة إلى عميل أو وسيط يتمتع بالشرعية الوطنية الكافية والقادرة على احتواء الطموح الفلسطيني وتمهيد الطريق نحو تحقيق اتفاق مع إسرائيل. هذا ما نجحت النخبة السياسية في «فتح» في تحقيقه، وخصوصاً بعد أيلول ـــ سبتمبر الأسود عام 1970. لقد كان اعتقاد العديد من قادة «فتح» أن الثورة الفلسطينية فريدة من نوعها في التاريخ البشري، كونها، كما قال أحدهم: «ثورة المستحيل»، وكما أكد أبو إياد مبكراً، أدرك قادة «فتح» أنهم غير قادرين على تحقيق التحرير. وأن كل ما عليهم عمله هو الانتظار حتى يدرك الشعب الفلسطيني بنفسه هذه الحقيقة ليتمكنوا هم بعدها من الوصول إلى اتفاقية مع الإسرائيليين.
في الوقت نفسه، عملوا على ضمان سيطرتهم على منظمة التحرير الفلسطينية باتباع سبل بيروقراطية وسلطوية، ضمنت احتواء منافسيهم في المنظمة أو إضعافهم.
وكل هذا يعني أن «فتح» فشلت في تمكين الفلسطينيين من التصرف بشكل مستقل ومنظم وتحرير أنفسهم، بحيث يتمكّنون من الاستفادة من وضعهم كلاجئين لمصلحتهم وتوظيفه لتحسين ظروفهم وأوضاعهم وأوضاع العالم العربي ككل.
كانت الثورة العربية شرطاً أساسياً لتحقيق الفلسطينيين القدرة والقوة اللازمين لتحرير فلسطين. لكن «فتح» لم تكن أبداً ثورية من هذا القبيل، حيث كانت دائماً حركة محافظة من الناحية العقائدية والسياسية. لم تكن عملية تزاوج النضال الفلسطيني المسلّح مع الثورة الاجتماعية ناجحة: حلّ السلاح مكان التنظيم والتعبئة الاجتماعية والسياسية، بحيث خضعت «فتح» للظروف التي رفضت تغييرها في بداية الأمر. وفي مرحلة معينة من تاريخها أدت أعباء الرفض الإسرائيلي ومشاق المناخ العربي إلى ظروف لا تطاق، بحيث لم يعد بوسع هذه النخبة إلا الاستسلام.
ولهذا السبب، تدعو «حماس»، «فتح» دائماً إلى التنحي إذا كانت متعبة في تولّي الأمور بنفسها. وكان يجمع بين «حماس» و«فتح» قبل عام 1982، العديد من العوامل المشتركة؛ فكلاهما محافظ من الناحية الاجتماعية وكلاهما يشكك في التعبئة الشعبية الذاتية التنظيم، وكلاهما يتمتع بشبكة واسعة من الترتيبات الخيرية والاجتماعية. كما يركز كلاهما على إنهاء الاحتلال وتأسيس دولة مستقلة في الضفة الغربية وغزة. كما يتشاركان في مفهوم الحرية نفسه ككفاح مسلح واتباع سياسة عدم التدخل في شوؤن الأنظمة العربية والتفاهم معها، وبالمقابل ضمان الحصول على أموال الخليج. لكن من الضروري ألا ننسى أن «حماس» هي حركة لاحقة لـ«فتح»، نشأت تحت الاحتلال، وبالتالي استفادت مما تعتبره أخطاء «فتح» في: أ ـــ أنّ الاعتراف بدولة إسرائيل (كشرط عقائدي مسبق للبدء بالمفاوضات) لا فائدة منه. ب ـــ أنّ الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية ضار ولا يؤدي إلى نتيجة.
ولا ننسى أيضاً الاختلافات السياسية الهامة من الناحية العقائدية الاجتماعية وصيغة الدولة المستقبلية المتوقعة بين حركة علمانية وحركة إسلامية أصولية. لا شك في أن «حماس» تسعى في نهاية الأمر إلى إحياء الدولة الإسلامية. إن نظرتها للمستقبل نظرة رجعية طوباوية، وعقيدتها الاجتماعية ارتدادية: الحد من حرية التجمع وحرية التعبير، وفرض الدين نظاماً اجتماعياً سائداً وكبح الحريات الفردية، وأخيراً اللجوء إلى العنف وسيلة لحل الخلافات الفلسطينية. ولا يحظى مثل هذا المشروع الديني إلا بدعم أقلية من الفلسطينيين، بينما حظي برنامج «فتح» العلماني المبكر بدعم الأغلبية وتأييدها. وماذا عن اليسار الفلسطيني؟ هل عرض اليسار أي بديل من مركزية «حماس» أو «فتح»؟ وكيف يمكن تفسير أسباب ضعفه؟
لقد عانى اليسار دائماً من القيود البنيوية نفسها التي عانت منها الجبهات الفلسطينية الأخرى من نفي وتشتت. كما اعتمد إلى حد بعيد، على الأنظمة العربية المتسلطة وارتبط معها، وعانى من الاعتمادية وعوز في الراديكالية. ومع ذلك، كان لتجربة اليسار بعض الجوانب الإيجابية الهامة. عقائدياً، تمتّع اليسار دائماً بمواقف تقدّمية هامة، حيث اعتبر القضية الفلسطينية مرتبطة جذرياً بمسألة التخلف في المشرق العربي، حيث مثّلت النكبة دليلاً على تآمر الطبقات الحاكمة التقليدية العربية مع الاستعمار الغربي.
بعد نكبة فلسطين، أُعفوا من دورهم كقادة للمشروع الوطني الفلسطيني. شهدت خمسينيات وستينيات القرن الماضي استبدال هذه الطبقة بقادة من البورجوازية الصغيرة، التي بدأت بالبروز في العالم العربي ككل. ومع الهزيمة المرة للمشروع الوطني العربي عام 1967، برز الفلسطينيون كقوة ثورية رائدة جسدت آمال الوطنية العربية المهزومة.
إنّ أبرز مساهمة لليسار الفلسطيني هي إدراكه أن هزيمة 1967 تعني فشل المشروع الوطني للبورجوازية الصغيرة في دورها كقائدة للثورة العربية. كانت توجهات عبد الناصر المعادية للإمبريالية غير كافية كقوة ثورية، وغير قادرة على تحرير الإمكانات الثورية للجماهير العربية وتحقيق الأهداف الوطنية في الديموقراطية والاستقلال. وكان اليسار على ثقة بعدم قدرة الفلسطينيين على تحرير فلسطين وحدهم، من دون دعم الجماهير العربية ومساندتها. تجسد إبداعهم النظري والسياسي في طرح فكرة التحالف الثوري مع الجماهير الشعبية العربية، بحيث ينتفض الفلسطينيون بثورة شعبية ويساهمون في انتفاضة الشعوب العربية ومساعدتهم على تحرير أنفسهم من نير الأنظمة الرجعية العربية.
أدرك اليسار، بكل وضوح، (على العكس من «فتح»)، أنّ الأنظمة العربية الديكتاتورية التي يدعمها الغرب هي في الواقع عدوّ رئيسي، وأنه لا يمكن تجاهلها أو اعتبارها عاملاً أو تناقضاً ثانوياً. بالتالي وجب عليهم مجابهة ثلاث قوى مترابطة وجبارة: الاستعمار الصهيوني، الإمبريالية الغربية، والقوى الرجعية العربية. مهمة ليست سهلة على الإطلاق. لكن فشل اليسار كان في انعدام التحضير والتنظيم لمجابهة التصفية الوخيمة التي قام بها النظام الأردني في 1970ــــ1971 والتي تسببت في مقتل 5000 مدني فلسطيني و1300 فدائي منهم.
اليسار اليوم يتفهم ويدرك طبيعة الأزمة الفلسطينية وخطر الانهيار الشامل واضمحلال الحركة الوطنية الفلسطينية، لكنه لا يبدو قادراً على تنظيم الشعب الفلسطيني لمواجهة مثل هذا الخطر. وهو يعاني اليوم من الضعف التنظيمي، وبُعده عن احتياجات الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة وفي المنفى. كما يعاني اليسار إضافة إلى ضعفه، من الانقسامات الداخلية. فمن الصعب تفهّم ضرورة وجود أربع منظمات يسارية مختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ورغم تزايد جهود التنسيق والتعاون في ما بينها، إلا أنها تفتقر إلى وحدة الصوت والاستراتيجية والتنسيق في عمليات التعبئة الجماهيرية.
ولزيادة الطين بلة، تبدو كل من هذه المنظمات اليسارية منشغلة أساساً في إنهاء التوتر بين «حماس» و«فتح». ولا يشكك أحد في أهمية إنهاء النزاع الداخلي، لكن ينبغي ألا يمثّل الهمّ الشاغل لليسار. ما العمل لو رفض كلا الطرفين فكرة الوحدة الوطنية؟ ماذا بعد؟ ما العمل إذا لم تحقّق الوحدة الوطنية ما هو ضروري اليوم: خطة وطنية للتحرير كما اقترحت وثيقة الأسرى ربيع 2006 التي حظيت بدعم أغلبية الشعب، ودعت إلى المقاومة والديموقراطية وصيانة كل الحقوق الفلسطينية. ما العمل عندها؟
واضح أن اليسار متردّد في منافسة أي من هاتين الجهتين، متقبلاً أن الصراع هو بين مفاوضات انهزامية لا تنتهي، وحركة أصولية إسلامية. إنّ واجب الثوريين هو النضال ضد هذه العقائد الاستسلامية والرجعية في الساحة السياسية الفلسطينية، والكفاح لتحقيق لا التحرير السياسي فحسب، بل الاجتماعي أيضاً.
قد يبدو هذا مستحيلاً في ظل الوضع الراهن. لكن لا ننسى أن العديد من الفلسطينيين قد سئموا الوضع الحالي وفقدوا الأمل من «حماس» و«فتح». هم بحاجة ماسة إلى بديل حقيقي، ما يمثّل فرصة ذهبية لنجاح مثل هذه الحركة.
ولكن لا ننسى أن الهدف الأول والأهم هو إنهاء الاحتلال. وهو ما يرغب به معظم الفلسطينيين، كما يرغب به عدد كبير من الإسرائيليين. ويجب بالتالي صياغة استراتيجية فلسطينية تتمحور حول هذا المطلب الوطني الأولوي. المعاناة الفلسطينية في ظل الاحتلال هي حالة طوارئ وطنية. فالسؤال الذي يجب علينا طرحه، هو كيفية تحرير الضفة الغربية وقطاع غزة بأكملهما، لا إذا ما كان ذلك ممكناً.
* أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة كولومبيا
(من ورقة قُدِّمَت في ندوة نظّمتها الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة)