نير روزن*تذبح إسرائيل شعباً سجيناً. والعالم يتفرّج عبر البثّ المباشر. يبرّر الإعلام الغربي ما يجري. وحتى بعض العرب يحاول مساواة صواريخ القسام بجبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية. لكن لا أحد منا مفاجَأ. فالإسرائيليون يقومون منذ مدة بحملة علاقات عامة عالمية تمهيداً لعدوانهم، وقد حظوا بتعاون دول عربية مثل مصر. المجتمع الدولي مذنب ومتورط في المذبحة الأخيرة. من سينتقم للضحايا؟ من سيجبر الناس في الولايات المتحدة الأميركية، في لندن، في إسرائيل على الشعور بألم الفلسطينيين؟ من سيجبر دكتاتوريات مصر، الأردن، أو المملكة العربية السعودية على الشعور بألم الفلسطينيين، إخوانِهم العرب والمسلمين الذين تخلّوا عنهم، وأسوأ من ذلك خانوهم؟ يجب أن يدفع هؤلاء ثمن عدم اكتراثهم. حتى الآن، جرت تظاهرات ضخمة في كلّ من لبنان، اليمن، الأردن، مصر، سوريا، موريتانيا، المغرب والعراق. الناس في العالم العربي لن ينسوا. الفلسطينيون لن ينسوا. وسيذكرون دوماً كيف تحالفت حكوماتهم مع إسرائيل وأميركا في هذه الجريمة.
لقد قضيت معظم ولاية جورج بوش مراسلاً في العراق، أفغانستان، لبنان، الصومال ومناطق نزاعات أخرى. نُشرت مقالاتي في دوريات مهمة. أجريت مقابلات مع شبكات تلفزة مهمة، كما أنني شهدت أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. لكن سكان نيويورك الأغنياء الذين قرأوا مقالاتي وهم يتناولون فطورهم صباح يوم سبت، كانوا ينهون طعامهم ويرمون قصصي بعيداً وينتقلون إلى الترفيه التالي.
بدأت إدارة بوش ولايتها مع ذبح الفلسطينيين وتنتهي مع ارتكاب اسرائيل واحدة من أكبر المذابح في ستين عاماً من احتلالها للأراضي الفلسطينية. وانتهت آخر زيارة لبوش إلى البلد الذي اختار احتلاله، مع رمي شاب علماني شيعي متعلم حذاءه عليه، معبّراً عن مشاعر العالم العربي عدا دكتاتوريّيه الذين ربطوا أنفسهم بطريقة متهورة بنظام أميركي مكروه.
طلبت مني صحيفة أميركية ذات مرة، أن أسهم عبر مقال في نقاش عن إمكان تبرير الهجمات الإرهابية على المدنيين. كانت إجابتي أنّ صحيفة أميركية يجب ألا تسأل إذا كان ممكناً تبرير الاعتداءات على المدنيين. هذا سؤال للضعفاء، لأميركي من السكان الأصليين في الماضي، لفلسطيني وعراقي اليوم، ليسأله لنفسه. الإرهاب هو مصطلح معياري لا مفهوم وصفيّ. هو كلمة فارغة تعني كل شيء ولا شيء، وتستخدم لوصف ما يفعله الغير، لا ما نقوم به نحن. القوي، سواء كان إسرائيل، أميركا، روسيا أو الصين سيصف نضال ضحاياه دائماً بالإرهاب، لكن تدمير الشيشان، التطهير العرقي لفلسطين، الإبادة البطيئة لما بقي من فلسطينيين، الحرب المستمرة ضد المدنيين في جنوب لبنان، قصف الناتو لبلغراد، الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، كل هذا لن يسمى إرهاباً، رغم أنّ المدنيين كانوا الهدف وإرهابهم كان الغرض. واليوم، يبدو مصطلح مكافحة التمرّد الرائج بين الإمبرياليّين، مجرّد تسمية أخرى لقمع نضالات التحرّر الوطني. الترهيب والتخويف أساسيّان في هذه العملية ككسب القلوب والعقول.
تتحدد المصطلحات المعيارية عبر علاقات القوة. يستطيع الطرف القوي تحديد ما هو الشرعي وغير الشرعي. يحاصر الطرف القوي الضعيف في ممنوعات قانونية تخدم في عملية منعه من المقاومة. مقاومة الضعيف هي غير شرعية تعريفاً. تخترع مفاهيم كالإرهاب وتستعمل معيارياً وكأنّ محكمة محايدة قد ابتدعتها، لا القامع نفسه. في الواقع، إنّ الاستخدام المكثف للشرعية يضعف الشرعية، ويقلل من صدقية المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة. ويصبح واضحاً أنّ القوي وهؤلاء الذين يصنعون القواعد، يصرّون على الشرعية فقط للحفاظ على علاقات القوة التي تخدمهم.
لا تُخلق كل القضايا متساوية، فلا يستطيع سكان الباسك أو كورسيكا اليوم تبرير الاعتداءات على الإسبان أو الفرنسيين كما يستطيع الفلسطينيون. الاعتداء على المدنيين هو أبسط وسيلة مقاومة عندما تواجه خلافات كبيرة واستئصالاً وشيكاً. تُسرق أرض فلسطين يوماً وراء الآخر، والفلسطينيون يتعرضون للاستئصال يوماً بعد الآخر. في النتيجة، هم يتصرفون بأية طريقة ممكنة للضغط على إسرائيل، ولا يمكن لومهم. تستخدم القوى الاستعمارية الأشخاص كأسلحة، وتدفعهم للمطالبة بأراضٍ وسلبها من السكان الأصليين، إن كانوا هنود شمال أميركا أو فلسطينيين في المكان الذي يعدّ اليوم إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. من الشرعي مهاجمة هؤلاء المدنيين السابقين الذين حوّلوا أنفسهم إلى أسلحة استراتيجية ليستوطنوا أراضيَ محتلة، إن كانوا المستعمرين الأميركيين أو المستوطنين اليهود. عندما يكتشف السكان الأصليون أنّ هناك عملية لا عودة عنها تدور في أراضيهم وتساندها قوة عظمى، يصبح كلّ شيء مبرراً. وبصرف النظر عن قضية الأميركيين الأصليين عندما كانت أميركا في طور الاستعمار، ما من قضية تبرّر الهجوم على المدنيين مثل معركة الفلسطيني من أجل وجوده.
منذ مدة غير بعيدة، قاد الشاب الفلسطيني قاسم المغربي ذو الـ 19 عاماً سيارته وسط مجموعة من الجنود على أحد التقاطعات. «الإرهابي»، كما سمته الصحيفة الإسرائيلية هآرتس، تعرض لإطلاق النار وقُتل، رغم أنّه، حتى كتابتي هذه السطور، لا تزال الشرطة الإسرائيلية غير متأكدة إذا كان ما حدث متعمداً أو هو مجرد حادث سيارة. في حادثين منفصلين في تموز الماضي، استخدم فلسطينيون من القدس سيارات للهجوم على إسرائيليين. المهاجمون لم يكونوا أعضاءً في منظمات. ورغم أنّ هؤلاء الرجال الفلسطينيين قتلوا، طالب مسؤولون إسرائيليون بتدمير منازلهم.
في حادث منفصل، كتبت هآرتس أنّ امرأة فلسطينية أصابت جندياً إسرائيلياً بالعمى عندما رمت الأسيد في وجهه. «اعتقلت قوات الأمن الإرهابية»، قالت الصحيفة. مواطنة تحت الاحتلال تهاجم جندياً محتلاً، وتكون هي الإرهابية؟ يسمح هذا الاحتلال للإسرائيليين بارتكاب المذابح، وقتل الفلسطينيين والإفلات من العقاب. وفي هذا الاحتلال يراقب الجنود الإسرائيليون النساء الفلسطينيات وهنّ يلدن على المعابر والحواجز، ورغم ذلك لا يسمحون لهن بالعبور للوصول إلى المستشفيات، فيسهمون في قتل الأطفال وأحياناً النساء.
قال الرئيس بوش عندما تحدث في الأمم المتحدة إنّه لا قضية يمكن أن تبرر قتل شخص بطريقة متعمدة. لكن الولايات المتحدة الأميركية قتلت آلاف المدنيين في غاراتها على أماكن مأهولة. عندما تسقط القنابل على مناطق مأهولة وأنت تعرف أنّه سيكون هناك أضرار مدنية «جانبية»، لكنك تقبل بذلك، يصبح القتل متعمّداً. عندما تُفرض عقوبات كما فعلت الولايات المتحدة على العراق إبان حكم صدام، ويؤدي ذلك إلى قتل مئات الآلاف، وتقول لاحقاً إنّ موتهم كان مجدياً، كما فعلت وزيرة الخارجية آنذاك مادلين أولبرايت، تكون عندها تقتل بطريقة متعمدة من أجل هدف سياسي. عندما تسعى لـ«الصدم والترعيب»، كما فعل الرئيس بوش عندما قصف العراق، تكون تشارك في الإرهاب.
كما صوّرت الأفلام الاميركية التقليدية الرجل الأبيض محاصراً من جانب الهنود المعتدين، وهو عكس الحقيقة، كذلك أصبح الفلسطينيون اليوم هم المعتدين لا الضحايا. طُرد 750000 فلسطيني بطريقة متعمّدة من منازلهم لإفساح المجال أمام المستوطنين الصهاينة، ودُمِّرت مئات القرى، واستولى المستوطنون على أراضي الفلسطينيين وأنكروا وجودهم وشنّوا حرباً تستمر منذ 60 عاماً ضد من بقي من السكان الأصليين وضد الحركات القومية التحررية التي أسسها الفلسطينيون حول العالم. كل يوم، يُسرق جزء جديد من فلسطين، ويقتل عدد أكبر من الفلسطينيين. ويصبح بالتالي كون المرء إسرائيلياً فعل استيلاء، وقتل، وخصوصاً عندما يكون هناك تجنيد إجباري للجميع لمساندة الاحتلال ورفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين. الفلسطينيون ليسوا ممنوعين من استعمال أي وسيلة ضرورية، لكنّهم ضعفاء. الضعفاء لديهم قوة أقل من الأقوياء، ويمكنهم إحداث ضرر أقل. لن يفجّر الفلسطينيون المقاهي لو كان لديهم دبابات وطائرات. في المنظور الحالي للأمور، تصبح تصرفاتهم مبررة، وخصوصاً أنّ ثمّة حدوداً واضحة لهم. فهم لا يستطيعون استخدام أسلحة نووية.
هناك حدود لهذا المنطق. كما هناك استحالة للحديث عن حجّة أخلاقية عالمية أو مبدأ كانطي يبرر أي فعل لمقاومة الاستعمار أو السيطرة التي تقوم بها قوة كبرى. هناك أسئلة أخرى أجد صعوبة في الإجابة عنها. هل يمكن التبرير لعراقيّ يهاجم الولايات المتحدة؟ فقد هوجمت بلاده بلا سبب، ودمرت، ما أدى إلى وجود ملايين اللاجئين، ومئات آلاف القتلى. وهذا كلّه بعد 12 عاماً من القصف والعقوبات التي قتلت الكثيرين ودمرت حياة عدد آخر. يمكنني أن أدّعي أنّ الأميركيين يستفيدون من الاستغلال الذي يقوم به بلدهم دون دفع الثمن وأنّه في عالم اليوم، الماكينة الإمبريالية ليست الجيش فقط، بل هي شبكة من الجيش والمدنيين. ويمكنني أيضاً أن أقول إنّ الأميركيين انتخبوا إدارة بوش مرتين وانتخبوا ممثلين لهم لم يفعلوا شيئاً لإيقاف الحرب، وأنّ الشعب الاميركي بنفسه لم يقم بشيء، ولم يهتم أصلاً، وربما يستحق أن يشعر ببعض الألم هو الآخر.
إسرائيل وحلفاؤها في الغرب وفي الأنظمة العربية مثل مصر، الأردن والمملكة العربية السعودية، نجحت في إفساد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إذ أغروها بوعد السلطة على حساب حرية الشعب، لنكون هنا مع أول حركة تحرير تتعامل مع المحتل. الانتخابات الإسرائيلية قريبة، وكالعادة تترافق هذه الانتخابات مع حرب لدفع حظوظ المرشحين. إذ لا تستطيع أن تكون رئيس وزراء اسرائيل دون أن تتلوث يداك بما يكفي من الدم العربي. هدّد جنرال اسرائيلي أن يعيد غزة عقوداً إلى الوراء، كما هددوا سابقاً أن يعيدوا لبنان عقوداً إلى الوراء في 2006. وكأنّ خنق غزة ومنع إمدادات الطاقة، الطعام والكهرباء عن أهلها، لم يرجعها عقوداً إلى الوراء حتى الآن.
حكومة حماس المنتخبة ديموقراطياً استهدفت منذ اليوم الذي ربحت فيه الانتخابات في 2006. أخبر العالم الفلسطينيين أنّهم لا يستطيعون أن يحصلوا على الديموقراطية، وكأنّ الهدف كان دفعهم نحو تطرّف أكبر، وكأنّ هذا لن يكون له عواقب. تدّعي اسرائيل أنّها تستهدف قوات حماس المسلحة. هذا غير صحيح. إنّها تستهدف الشرطة الفلسطينية وتقتلها، ومن بينها رئيس الشرطة توفيق جابر وهو ضابط سابق في فتح بقي في منصبه بعدما تسلّمت حماس السلطة في غزة. ماذا سيحصل لمجتمع لا قوّات أمن فيه. ماذا يتوقّع الإسرائيليّون أن يحصل عندما تتسلم السلطة قوى متطرّفة أكثر من حماس؟ اسرائيل الصهيونية ليست مشروعاً قابلاً للحياة لفترة طويلة، وقد منع استملاك الأراضي وبناء المستوطنات الاسرائيليّة والحواجز تطبيق حلّ الدولتين منذ فترة طويلة. لا يمكن أن يكون هناك إلا دولة واحدة فقط في فلسطين التاريخية. في العقود المقبلة، سيجابه الإسرائيليون بخيارين. هل سينتقلون بسلام إلى مجتمع تسوده المساواة، ويتمتع فيه الفلسطينيون بالحقوق كما في جنوب أفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري؟ أم سيستمرون في رؤية الديموقراطية تهديداً؟ إذا كانت هذه هي الحال، فإنّ أحد الشعبين سيجبر على الرحيل. لقد نجح الاستعمار عندما أبيد غالبية السكان الأصليين. لكن في أحيان عدة، كما في الجزائر إبان الاحتلال، كان المستوطنون هم الذين يهربون. وفي النهاية لن يقبل الفلسطينيون بالتسوية والسعي إلى دولة واحدة للشعبين. فهل يريدهم العالم أن يصبحوا راديكاليين أكثر؟
مثّل استمرار المشكلة الفلسطينية الدافع الأساسي لكل ناشط مناهض للولايات المتحدة داخل العالم العربي وخارجه. لكن إدارة بوش أضافت اليوم العراق وافغانستان كمآسٍ إضافية. لقد فقدت الولايات المتحدة نفوذها على الشعوب العربية، حتى لو كانت تستطيع ممارسة الضغط على الأنظمة العربية. اليوم لم يعد المصلحون والنخبة في العالم العربي يريدون أن يتعاطوا مع أميركا. ترحل إدارة أميركية فاشلة، ومعها كذبة الوعد بدولة فلسطينية، في الوقت الذي يموت فيه المزيد من الفلسطينيين. يأتي رئيس جديد إلى السلطة، لكنّ شعوب الشرق الأوسط أصبحت خبيرة في ادارات الولايات المتحدة، ممّا يمنعها من التأمّل بأي تغيير. لم يُبدِ الرئيس المنتخب باراك أوباما، ونائبه جو بايدن، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وجهات نظر حول الشرق الأوسط مختلفة عن الإدارات الأميركية السابقة. وفي الوقت الذي يتحضر فيه العالم للاحتفال بعام جديد، كم من الوقت سيمر حتى يشعر العالم بألم هؤلاء؟
* صحافي أميركي مقيم في بيروت
(ترجمة ديما شريف)