حيفا ــ فراس خطيبكلّهم اعتادوا سحنته السمراء وملامحه الحادّة وبالطبع، الكوفية التي يعتمرها. كانت تلك الكوفية جزءاً من حضوره القوي. ربما كانت تذكيراً بحلمه الأزلي بالعودة إلى قريته لوبية التي هجّر منها، أو رسالة قد ينقلها إلى حالمٍ آخر. لم يسأله أحدٌ يوماً عنها، وهو بدوره لم يبادر للحديث عن معناها. غادر أبو أحمد، كما غادر الذين من قبله، لكنَّ كوفيته لم تغادر. ظلت تنتقل من جيل إلى آخر، لتكتسب في حضور فلسطينيي 48 مع مرور الزمن معنىً وشكلاً في كل مرحلة. فمن رمز الأرض النازفة، إلى رمز التشبث بما بقي، لتتحول بعدها إلى ما يشبه الإشارة الهادئة إلى جمرة الانتماء، وصولاً اليوم إلى أروقة الموضة التي «قد تكون حالها من حال القضية التي لم تعد كما كانت»، حسب ما يقول شاب فلسطيني في «الداخل»، «لا يحب الرموز»، وبين السطور حديث قد يتجاوز الكوفية بمعناه.
من يمر في المراكز التجارية الإسرائيلية اليوم، أو يقلب أكوام القماش في الحوانيت، قد يلمح كوفية فلسطينية هناك، تذكّر بأصل الفكرة، لكنّها قد لا تعني للحانوت وزبائنه شيئاً. هذه، ألوانها تختلف، وقماشها أيضاً. لكن من ينظر إليها من الفلسطينيين يعي أنها محاولة «صياغة» مستحدثة، لروح انتُزعت من أرض الصراعات الأزلية، محاولة لتقنين تلك الروح وركنها كأيّ سلعة أو بضاعة على رفوف الحوانيت الزجاجية. لن يحاسبهم أحد على «حقوق الشكل»، ولن يناقشهم أحد في معناها التاريخي الذي يحاولون مصادرته بتسليعها، فالصراع على الوجود، الأولوية، لم يترك مكانًا للصراع على الرموز.
حين تسأل البائعة الإسرائيلية في الحانوت الإسرائيلي عنها تقول إن «الإقبال عليها واسع، ومن كل الأجيال. لدينا منها لون أحمر، وأبيض وليلكي وملوّن ومخرّم .» إلخ. تحكي الإسرائيلية بدون أية مشاعر خاصة: لا تحدٍّ ولا استفزاز. مجرد بائعة قد تكون ملّت من البيع. الكوفية المزيّفة لا تعني لها سوى قطعة قماش. وحدهم الفلسطينيون ينظرون إليها بعين القلب والتاريخ. يقول شاب من فلسطينيي 48 «أخاف عليها من أن تتحول إلى لباسهم القومي، كما تحوّل الفلافل والحمّص إلى مأكلهم القومي».
الشباب الفلسطيني يمر بحالة من العودة إلى الهوية. فهو جيل لم يعاصر النكبة ولا ما تبعها من حكم عسكري. الكوفية منتشرة بين صفوفه؛ في فعّاليات الأطر الشبابية، وفي الاجتماعات المناهضة للخدمة المدنية (لدولة إسرائيل). لكن اللافت أن الكوفية أصبحت قيد الجدل السياسي. ثمة من يخشى قطعة القماش المخططة بالخطوط السوداء. سعت ثلاث مدارس أهلية (تابعة للدولة) في مدينة حيفا قبل أيام إلى إصدار تعليمات تمنع ارتداء الطلاب للكوفية في المدرسة. الطلاب يرفضون القرار «هذا ظلم، وهم ينفذون أوامر من الأعلى، لا نريد أن نخضع». عند منع الكوفية، أجمع الطلاب على معناها. وقالوا بأغلبيتهم الساحقة إن «المدرسة تلغي رمزاً للانتماء»، كما قالوا إنهم لن يتوانوا عن النضال لكسر «القانون المجحف». أصبح، حتى من ارتداها على سبيل الموضة، يدافع عن رمزيتها بكل ما أوتي من قوة. الطلاب أحرجوا إدارة المدارس التي امتنعت عن الردّ، واكتفت بالقول إنَّ الأمر «ليس سياسياً»، بل «جاء بدافع الحفاظ على الزيّ الموحد». ترد طالبة بأن «هذا سخيف. ما الفرق بين الكوفية والشال؟ لماذا لم يمنعوا الشال؟». المعركة لإعادة السماح بالكوفية في مدارس حيفا قد تكون متواضعة، لكنَّها بالتأكيد تكتسب بعداً عميقاً. فهؤلاء الشباب الذين يحيون في «المدينة المختلطة» يجدون أنفسهم، ربما دون أن يعرفوا، مدافعين عن «رمز للانتماء» في المدينة الكبيرة.


لم اشترها من عند زارا

لا يمكن تجاهل مشهد الكوفية بين الشبان في حيفا. قد يختلفون على كيفية ربطها: ثمة من يعتمرها، وآخر يلفها حول عنقه اتقاءً للبرد في فصل الشتاء، وثمة من يلقيها على كتفيه لتغطي ظهره كاملاً، وهناك من يرتديها مع نظارة شمسية تمنحه روح «المقاوم الجديد». لكنهم يتفقون على أنَّها «رمز للانتماء» ولو أن البعض، كما يقول وحيد «يضعها حباً في مسلسل باب الحارة»!
قد تكتشف أن وحيد محق عندما تشاهد شابّاً أو فتاة يرقصان في أحد الملاهي الليلية، وقد ارتديا الكوفية. يقول وحيد غاضباً «ليس كل من يرتدي صورة تشي غيفارا يعني أنه يعرف تشي». وحين تسأله عن معنى الكوفية يقول «جئت بها من قريتي، من قلب بيتي، كوفيتي لم أشترها من عند «زارا» (شبكة الحوانيت العالمية)».