ناهض حتر *طبعتان بالإنكليزية والعربية من كتاب مروان المعشر «نهج الاعتدال العربي»، أراد منهما نائب رئيس البنك الدولي أن يقول كلمته الأخيرة اليائسة من تذكّر تجربته السياسية في مسيرة «السلام والإصلاح»، التي يرى أن نهج الاعتدال العربي لم يحقق أي تقدم فيهما. الكتاب لا يضيف جديداً إلى الفكر السياسي العربي سوى التأطير المثقف لأطروحة المعتدلين العرب الدعائية التي ربطت بين السلام مع إسرائيل والإصلاح السياسي. وهي الأطروحة التي سنناقشها هنا، وتغطّي عقداً من نشاطه السياسي المحموم لتحقيق معادلة السلام والإصلاح، منذ توليه منصب أول سفير أردني في تل أبيب (1995)، ثم في واشنطن، قبل أن يصبح وزير الخارجية السابق ومنسق لجنة «الأجندة الوطنية» الإصلاحية التي وضعت على الرف، بعد إنجازها، في عام 2005.
كتاب المعشر، مثلما كان أداؤه، يؤكد ميله الفعلي للإصلاح وجديته في العمل لتنفيذ ما يؤمن به. وبالتالي على المرء أن يأخذ جدياً شعوره المرير بالفشل، أقله كدليل يقدمه واحد من أهل البيت على الأزمة العميقة لنهج الاعتدال العربي المطالَب اليوم، حسب تصريحات صحافية للمعشر، بالعمل على وقف «الحلول التدريجية» غير المجدية مع إسرائيل، والعمل على استنهاض «إرادة سياسية عربية» و«إقحام» الإدارة الأميركية الجديدة في عملية تطبيق «حل مستدام يضمن حقوق إسرائيل وجيرانها العرب ومطالبهما في الأمن والسلام واستعادة الأرض والحقوق العربية»، و«إقامة الدولة الفلسطينية في حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية». وهو حل لا غنى لإسرائيل عنه إذا أرادت أن تتجاوز «التحدي الديموغرافي العربي في فلسطين التاريخية». بالمقابل، توصل المعشر إلى قناعة بتحقيق إصلاح داخلي تدريجي، لكن جدي، بغض النظر عن مجريات العملية السلمية.
يسجَّل للمعشر إنجاز وموقف. الإنجاز هو العمل الدؤوب على استصدار قرار محكمة العدل الدولية القاضي بإزالة جدار العزل الاستيطاني في الضفة الغربية. وهو قرار مهم أعاد توصيف الضفة، وفق القانون الدولي، أرضاً محتلة، لا أرضاً «متنازعاً عليها» كما هي حالها في المفاوضات الفلسطينية ـــ الإسرائيلية. وهو ما حدا بالعرب والفلسطينيين الرسميين إلى تجاهل ذلك القرار لاحقاً. وأما الموقف، فرفض المعشر القاطع لأية حلول تنقذ إسرائيل من المأزق الديموغرافي أو تهدد الدولة الأردنية وهويتها الوطنية (مشاريع الوطن البديل).
يمكننا الآن، بعدما أعطينا المعشر حقه كسياسي جاد، أن نناقش أطروحته الأساسية التي تبدو لنا شديدة السذاجة. فنبدي أولاً، دهشتنا لأن الكاتب الذي لامس برؤية نقدية تعززها التجربة، الكثير من جوانب ضعفها، لم يستطع، بل لم يتوقف أصلاً لمناقشة أطروحة «معادلة السلام والإصلاح» وتناقضاتها القاتلة.
تقول أطروحة الاعتدال التي سيطرت خلال عقد ونيف (1991ـــ2005) في بلادنا، إن التأخر العربي يمكن معالجته عبر:
1ـــ سلام شامل وتطبيع مع إسرائيل ينهي حالة الحرب والإنفاق العسكري والأحكام العرفية والشرعية التي فرضتها الأنظمة الشمولية العربية ـــ الاستبدادية والمعادية للثقافة السياسية الغربية بحجة المواجهة مع المشروع الصهيوني والاستعمار.
2ـــ تقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وذلك بالخصخصة ولبرلة الاقتصادات الوطنية وجذب الرساميل وإطلاق حرية السوق والمبادرات الاستثمارية، لخلق طبقة جديدة ذات مصلحة بالإصلاح وتكثيف فرص العمل للعاطلين في القطاع الخاص، وبالتالي تأمين أسس للتقدم وتقليص قدرة الأنظمة على الاستبداد.
3ـــ الإصلاح السياسي بالتحول إلى صيغ حكم ديموقراطية.
مثلت هذه الأطروحة، في صيغ دعائية مختلفة، رؤية النخب الحاكمة والمسيطرة في مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وكذلك رؤية قوى «المعارضة» العراقية التي قدمت على الدبابات الأميركية لحكم العراق، وقوى 14 آذار في لبنان، وجناح في النظام السوري جرت تصفية عناصره السياسية (عبد الحليم خدام وصحبه) دون المساس بعناصره الاقتصادية. أما الاعتدال الخليجي، فقد ظل حذراً في ما يتصل بالادعاءات الديموقراطية، مفضلاً بناء نماذج من ليبرالية اقتصادية منفلتة ووحشية مقترنة بأنظمة حكم رجعية وفائتة، وتقديم الدعم المالي والسياسي لأنظمة الاعتدال المشرقية، والتسهيلات العسكرية والأمنية، علاوة على المساهمة المالية في حروب الولايات المتحدة ضد «الإرهاب» و«الأنظمة الشمولية».
أعطت أطروحة الاعتدال كما صاغها مثقفون وناشطون في القاهرة وعمان وبيروت ورام الله، الأساس البعيد الغور لسياسات «المعتدلين» المتطرفة في تأييد نهج إدارة المحافظين الجدد الأميركية، وتعزيز التفاهم مع تل أبيب إلى درجة التحالف أحياناً: محاصرة المقاومة في فلسطين، ودعم الحرب على العراق، وإغراق مقاومته بالنزاع المذهبي، ودعم الحرب الإسرائيلية على حزب الله في عام 2006، ومحاصرة سوريا والسعي إلى إسقاط النظام الحاكم في دمشق. ويبدو كل ذلك، في نظر دعائيات الاعتدال العربي كما في نظر مثقفيه، كثمن لا بد من تسديده لإحداث التغيير الإصلاحي المطلوب في المشرق العربي.
لقد أثبتت التطورات أن القوى المضادة لأطروحة الاعتدال العربي وسياساته ليست واهنة. بالمقابل، ثبت أن قدرة واشنطن وتل أبيب على شطب القوى المعترضة على سيطرتها في المنطقة، لها حدود، تلجمها مثلما ثبت ـــ كما في حالة الأردن ـــ أن القوى الداخلية «التقليدية» على حد وصف المعشر، لا تزال قادرة على التصدي «للإصلاحيين». أهذا هو السبب في أن أطروحة الاعتدال العربي قد وصلت إلى مأزق؟ يعني لو افترضنا ـــ وهو بالطبع افتراض غير واقعي ـــ أن القوى العربية المضادة لنهج الاعتدال واللبرلة قد استسلمت ووضعت سلاحها ومعارضتها جانباً، فهل كان لنموذج السلام والإصلاح أن ينجز وعوده؟
يحمّل المعشر الولايات المتحدة وإسرائيل المسؤولية عن فشل عملية السلام، لكنه لا يربط بين سلام تقرره قوى خارجية وبين إمكان الإصلاح السياسي الداخلي باتجاه الديموقراطية. فالديموقراطية، التي لا معنى لها من دون مشاركة اجتماعية واسعة في اتخاذ القرار، لا يمكن أن تولد وتنمو وتعيش في ظل تجاهل الإجماع الوطني. والأخير، لا يمكن تحقيقه بينما تنفرد عصبة محدودة في تقرير السياسات الخارجية، على الضد من وجهات النظر والمصالح والمشاعر الوطنية التي لا يمكن تجاهلها كحقائق مادية.
إن السير وراء السياسات الأميركية العدوانية، المكروهة من الأغلبية الشعبية، والتحالف الأمني والعسكري مع واشنطن في حرب أهلية على النطاق العربي، ومواصلة مفاوضات ماراثونية مع إسرائيل مدججة بالسلاح، لم تتوقف لحظة عن سياسات الحصار والقتل والتشريد إزاء الشعب الفلسطيني، وعن الحرب والتهديد إزاء «جيرانها العرب»، كل ذلك سوف يعزل «الأنظمة المعتدلة» داخلياً، ويمنعها، حتى لو أرادت، من التحول نحو ديموقراطية سوف تقرر، بالضرورة، سياسات خارجية مضادة.
كان الملك حسين قد توصل، في الأعوام 1989ـــ1993، إلى قناعة بضرورة التحول، أقله التدريجي، إلى ديموقراطية مؤسسية تسمح باستقرار النظام على المدى البعيد. وهو ما سمح بفترة من الإجماع الوطني وازدهار الحياة السياسية في البلاد. لكن سرعان ما انهارت «التجربة الديموقراطية» تلك عندما قرر النظام، على الضد من إرادة الأغلبية الشعبية، التوصل إلى معاهدة سلام جائرة مع إسرائيل.
ولم يكن أمام النظام من خيار، لتمرير السلام مع عدو لم يقدم أية تنازلات جوهرية لقاء قبول كامل بشروطه، سوى الكف عن نهج الإصلاح السياسي، وإقرار قانون انتخابات، ما زال سارياً، مفصَّل لاستبعاد المعارضة والشخصيات الوطنية، وملء المقاعد البرلمانية بالوجهاء المحليين ولاحقاً برجال الأعمال.
ومع ذلك، فقد أقر برلمان 1993 المعاهدة مع إسرائيل، بينما كانت السيارات المسلحة تحيط بمقره. وشهدت البلاد عودة إلى سياسة التدخل في حرية الصحافة وحصر النشاطات الحزبية ومحاصرة المعارضة وقمع التحركات الشعبية بالقوة. أعني أن «السلام»، الذي أيده المعشر وصحبه من الليبراليين وقتذاك، مثّل العائق الأكبر أمام نمو الديموقراطية الأردنية الوليدة.
لكن العائق الثاني، الأشد مضاضة، كان في الطريق، وتمثل في سياسات اللبرلة الاقتصادية المتوحشة التي اقتضت، في صيف عام 1996، إرسال الدبابات إلى الريف واعتقال مئات الناشطين لكبح الاحتجاج على الإفقار والتهميش المتزايدين للفئات الشعبية. ومذاك، تطورت سياسات الخصخصة وتحرير السوق والتحالف مع الاستثمارات الأجنبية في قطاعي العقار والمال، متحولة إلى مؤسسة فساد كاملة تقوم على المزج بين البزنس والسياسة والإدارة، وخلق طبقة جديدة من السياسيين المتنفذين من أوساط رجال الأعمال الذين تمكنوا من إخضاع كل موارد الدولة لمصالحهم الخاصة.
هكذا أصبح التحوّل نحو الديموقراطية ممتنعاً بشبكة مصالح لأقلية متوحشة من رجال الأعمال والسياسيين الفاسدين الذين دعموا، في آن معاً، إجراءات استبدادية وطابوراً خامساً يؤيد حلّ الوطن البديل.
للمفارقة التاريخية التي ربما لا يستطيع ليبرالي مخلص كالمعشر أن يفهمها، فإن التحالف الأردني الذي تصدى لهذا النهج، ونجح في إبطائه أخيراً، تكوّن من قوى تقليدية وشعبية وبيروقراطية ويسارية، تقاطعت مصالحها على نبذ طريق الهاوية الذي نشط المعشر، واعياً أو غير واع، من أجله. وهو ما سمح، على عكس افتراضات الأطروحة الإصلاحية، في استعادة دور أكبر للمجتمع في القرار.
* كاتب وصحافي أردني