محمد بنعزيز *رأسمالية الغرب في أزمة. وحين يكون الغرب موضوعاً للحدث، فإن وسائل الإعلام تحقق وتدقق. وتتدحرج وسائل إعلام الدول غير المتقدمة خلف الجوقة، وذلك لنفهم نحن، الشعوب الفقيرة، أنه إذا كان الغرب في أزمة فلا ضير في أن نعيش نحن أزمة مضاعفة.
ما هي هذه الأزمة؟ المواطنون الأميركيون، بعد أن شبعوا منازل وسيارات ورفاهية بفضل القروض، لم يعد بإمكانهم أن يدفعوا الأقساط الشهرية. الحل: تصادر البنوك الأميركية المنازل والسيارات وتبيعها في المزاد العلني.
هل هناك حل أبسط؟ ألا يطبّق في كل بلدان العالم دون ضجيج؟ لكن للمرحلة خصوصياتها: أميركا تعيش انتخابات، والمرشحون يريدون تلميع وجوههم بالوقوف سداً بين البنوك والمستهلكين، فلا تحصل مصادرات، وقادة البنوك المغامرة يبتزّون السياسيّين، إما أن يدفعوا أو تسبب المصادرات نكبة اجتماعية. وقد يعلن 100 بنك إفلاسه فلا يظهر أثر لودائع المواطنين. لكن سيبقى في أميركا أكثر من 1000 بنك.
مقارنة مع ما يجري في العالمين العربي والإسلامي، هل هذه أزمة أصلاً؟ هل قتل أحد أو مات جوعاً أو خوفاً؟ أبداً. ما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان ليس أزمة بل جحيم. فكيف يكون تراجع الرفاهية في الغرب حبة حبة، أهم من الجحيم المستعر من الدار البيضاء حتى جاكارتا؟ ثم إذا كانت الحكومات الغربية قادرة على ضخ مئات مليارات الدولارات في أسابيع، فأين الأزمة أصلاً؟ حكومات بهذه السطوة المالية الرهيبة، ويتحدث الإعلام عن أزمة؟ بل ويقول إن الغرب لن ينهض. صحيح لن ينهض، ليس بسبب المضاربة، لأنها روح السوق، والسوق قلب الرأسمالية. الأسباب في مكان آخر. المضاربة كانت دائماً موجودة، لكن من كان يدفع ثمنها؟
لقد نهض الغرب من أزمة قاسية في 1929، وكانت بين حربين عالميتين طاحنتين، لماذا؟ 1ـــــ خلال الاستعمار، كانت إيطاليا تنهب ليبيا، وبريطانيا تنهب الهند، وفرنسا تنهب المغرب. حتى إنه في 1944 عرف المغرب مجاعة بسبب شحن المواد الفلاحية للفرنسيين في الحرب العالمية الثانية. 2ـــــ بنى الغرب مجده الاقتصادي على استيراد مواد خام رخيصة وتصدير سلع مصنّعة ذات قيمة مضافة عالية. بدأ هذا المسلسل مع الاكتشافات الجغرافية واستمر حتى ثمانينيات القرن العشرين، وبعدها دخلت النمور الآسيوية على خط الإنتاج. 3ـــــ كانت خدمة الديون تستنزف خزائن دول العالم الثالث. كانت ديون البرازيل والأرجنتين فلكية. كانت الشعوب تكدح وبنوك الغرب تجني مقابل كل دولار سلفة أضعافاً مضاعفة. وقد كان التقويم الهيكلي بداية الثمانينيات خطة إجبار على الدفع. 4ـــــ حتى أصول تلك الديون كانت ترجع إلى الغرب بسبب الفساد. كان القادة المزمنين في العالم الثالث يؤمّنون مستقبلهم في بنوك سويسرا وأميركا، وكانت السيولة المهربة تزيد رخاء الغرب. 5ـــــ كانت دول العالم الثالث تستورد كل شيء، وكانت الأرباح مهولة، وقد مكّن ذلك الغرب من تقوية بنياته التحتية وزيادة الإنتاج.
نتيجة ذلك، ربح الغرب الحرب الباردة، لأن الاتحاد السوفياتي لم يكن يملك الموارد نفسها للاستمرار في المواجهة. في بداية الألفية الثالثة، تغيّرت المعطيات التي صنعت المجد الاقتصادي للغرب.
تابعوا: 1ـــــ كان التقويم الهيكلي شراً لا بد منه. كانت كلفته الاجتماعية عالية، ولكنّه في نهاية المطاف أخرج رقبة الكثير من الدول من قبضة نادي باريس وأشباهه.
2ـــــ ظهرت مناطق بديلة للاستثمار المربح غير الولايات المتحدة وبريطانيا.
3ـــــ توقف الاقتتال الناتج من الحرب الباردة في أفريقيا وأميركا الوسطى. صارت الصراعات داخلية، لا داعي لشراء الدبابات والرشاشات، تكفي العصي والرصاص المطاطي لمواجهة الاحتجاجات، وهذه أرخص. جنوب أفريقيا تتزعم القارة السمراء، تستضيف مونديال كرة القدم وتحل أزمة زيمبابوي على طريقتها. أميركا اللاتينية تتماسك لتحتفظ بثرواتها، هوغو تشافيز ينقل عدوى التأميمات إلى جيرانه. طبعاً كان إسقاط سالفادور أليندي أسهل من إسقاط تشافيز.
4ـــــ تعلّم العالم الثالث وتطوّر وصنّع. الآسيويون يبيعون سيارات أكثر مما تبيع «جاغوار» «وجنرال موترز»، حرمت دول صاعدة مثل البرازيل والهند الغرب من أرباح كثيرة. جنوب شرق آسيا تقدم، طوّر المغرب منطقة طنجة لمواجهة التهريب، وقريباً سيتقلص التهريب من سبتة ومليلية المحتلتين، وسيصبح الاحتفاظ بالمدينتين مكلفاً لإسبانيا بعد أن كان مربحاً، وها هي مدريد تستجدي الصناديق السيادية الخليجية. ولّى زمن رفض البترودولار الذي تلا أحداث أيلول 2001.
5ـــــ زادت أسعار المواد الأولية مما وفّر لدول الجنوب سيولة مالية مهمة. من أجلها قام ساركوزي فور انتخابه بجولات لتجميع صفقات بعشرات مليارات اليورو في الصين والمغرب والسعودية. الآن يشتري الإماراتيون أندية لندن ويستأجرون لوحات اللوفر. روبير مينار ينتقل ليشتغل في مركز حرية الإعلام في قطر. النفط ينتج سلطة، بلير وبرلسكوني وساركوزي يستمعون للقذافي بأدب.
6ـــــ لم يعد حكامنا يستطيعون تهريب ثروات الشعوب إلى بنوك الغرب بنفس الكثافة. لقد فضحت الثورة الإعلامية مثل هذه السلوكيات.
7ـــــ بفضل هذه الثورة، علا صوت الشعوب، تلاشت هيبة الدول الفاسدة. صارت سطوة الحكام أقل منذ فقدوا الحماية مع نهاية العالم الثنائي القطبية. الآن يعرفون أنهم مكروهون، وهذا يجعلهم خائفين من شعوبهم وأقلّ تسلّطاً، لم يعودوا مصدراً للشرعية بل صاروا يستجدونها للبقاء. لذا لم تعد الموارد تنفق فقط على القمع والبذخ. بدل حياة الشاه الباذخة، صار لدى إيران أحمدي نجاد. وفي المغرب، ألغى الملك محمد السادس الاحتفالات الملكية التي كان يقيمها والده.
8ـــــ أدى تزايد قيمة الثروات الوطنية إلى انكشاف صراع النخب عليها. وقد كان هذا الصراع مفيداً للشعوب، إذ أصبح دورها مطلوباً في حسم النزاع. منذ ظهر النفط والذهب في موريتانيا، اشتد الصراع بين قادة العسكر، فاستدعي الشعب ليقول كلمته، فجرت مراجعة عقود النفط. وهكذا قلّص ارتفاع وعي سكان الجنوب مستوى الفساد.
نبّهت العولمة الفقراء إلى ثرواتهم. العولمة في لائحة الأرباح والخسائر كانت مفيدة، وقد أضرّت الغرب أكثر مما نفعته، ونتج من ذلك ردّ فعل سوريالي: أولاً، فرانسيس فوكوياما يقرّ بـ: «إن القطاع العام الأميركي بكامله ـــــ الذي لا يحظى بتمويل كاف ويفتقر إلى الخبرات المهنية والمحبط ـــــ بحاجة إلى إعادة بنائه وإعادة تعزيز كبريائه. هناك مهمات معينة لا يمكن إتمامها إلا من قبل الحكومة». ثانياً، قادة الرأسمالية يسافرون إلى الصين الشيوعية بحثاً عن وصفة علاج للسوق في القطاع العام.
في الحقيقة، التحوّل أعمق من المضاربة وحاجات القطاع العام الأميركي. لقد تراجع استغلال الغرب للعالم. زاد وعي الشعوب فتقلّص الفساد والحروب الأهلية، فقلّت السيولة التي تتجه للغرب، ونتيجة لذلك عبّر هنري كيسنجر عن جشعه بسبب تجمّع مئات مليارات الدولارات في الخليج. ويبدو أن هذه ستكون سبب حرب جديدة في هذه المنطقة، تنتهي بترحيل المليارات إلى بنوك أميركا، وتعود السعودية لتستدين لدفع أجور موظفي القطاع العام، كما حصل بعد حرب الخليج الثانية. إذا حصل هذا، ستنتهي أميركا إلى عكس حلم الآباء المؤسسين، ستتراجع عن مزاعمها الرسولية لتمدين ودمقرطة العالم، ستصبح القوة والابتزاز عملة تعاملها، ستغدو السياسة الخارجية الأميركية أقرب إلى سياسة موسكو مع جيرانها.
إن العولمة لم تكن كلها شراً كما بدا للوهلة الأولى، وإن كانت كذلك فهي لدول الغرب، لأن قوى جديدة ظهرت. وقريباً ستحضر الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا قمة الثماني معزّزة مكرّمة، وسيزداد احتفاظ الجنوب بثرواته، وهذا يزعج الذين تعوّدوا نهبه، لكن عليهم من الآن الاعتماد على أنفسهم فقط. من الآن فصاعداً، لن يدفع الغرب ثمن المضاربة والرفاهية من عرق الشعوب المستغلّة. في نهاية المطاف، إن الأزمة الحالية خطوة في طريق العدالة الاقتصادية.
* صحافي مغربي