بعد مليوني سنة من الصيد ومن قطف الثمار، بدأ الإنسان، قبل 12 ألف عام من اليوم، بتغيير علاقته بالطبيعة: «اخترع» الزراعة وربّى المواشي. هل كان ذلك تطوراً إيجابياً؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست بسيطة...
إعداد: رنا حايك
تساءل الباحثان جان بول ديمول وجان غيلين خلال المؤتمر العالمي حول «الثورة النيوليثية» (أي ثورة العصر الحجري الحديث) الذي عقد في مدينة العلوم والصناعة في باريس بين الثاني والرابع من شهر تشرين الأول الفائت، عن السبب الذي دفع بالإنسان إلى التزام السكن واختيار أسلوب الحياة الحضرية، وإلى لجوئهم إلى تدجين الحيوانات والنباتات. فهذا الخيار الذي اعتمده البشر في مرحلة من مراحل تاريخهم قد غيّر مجرى التاريخ الإنساني.
وقتاً طويلاً. رأى الباحثون أن البيئة الطبيعية هي التي أجبرت الإنسان على اتخاذ هذا الخيار، وعلى البحث عن أساليب جديدة ومتزايدة لتأمين غذائهم. في الحقيقة، ليست الإجابة مادية، والاقتصاد لم يكن دافعاً، بل إنه جاء كنتيجة لهذا التطور «الثوري». ليس توافر الحقل هو ما ثبّت الإنسان، فهذا الأخير هو من قرّر الاستقرار. لماذا؟ لأنه في مرحلة معينة من تاريخه، بحث عن أسلوب حياة مختلف. كان ذلك خياراً ثقافياً، مبادرة لم يكن تحقيقها ممكناً إلا في بيئة مؤاتية تحوي كائنات قابلة للتدجين.
في الفترة بين 10000 سنة و5000 سنة قبل الآن، يلاحظ مصادفة مربكة: فقد ظهرت خلال هذه الفترة مراكز نيوليثية مستقلة بعضها عن بعض في مناطق مختلفة كالشرق الأدنى (قمح، شعير، خروف وماعز، خنازير وأبقار)، ثم المكسيك وجبال الآندز (ذرة، قرع أو يقطين، فاصولياء وحيوان اللاما)، كما في الصين (أرز، خنزير، دجاج وأبقار) وفي وسط أفريقيا (قلقاس، موز).
يتضح من هذه المصادفة أن الشرق الأدنى يمثّل جذور المرحلة النيوليثية الأوروبية. فأنواع عديدة من الغذاء الموجود في أوروبا أتت من الشرق الأدنى، من المنطقة التي تمتد من سيناء حتى جنوب ـــ غرب تركيا. كانت «النيوليثية» عملية بطيئة بما أن أولى محاولات زراعة الحبوب بدأت منذ 9500 عام، بينما لم تظهر أولى محاولات التدجين سوى بعد ذلك بألف عام. فتاريخ الحيوانات المدجنة يعود إلى 8000 عام قبل اليوم، والقرى الزراعية تماماً إلى ما قبل 7500 عام من اليوم. لقد كانت سياسة بطيئة التحقق.
أصبح من المتعارف عليه في الأوساط العلمية اليوم أن بداية الزراعة في الشرق الأدنى قد أدت إلى طفرة حضارية قوامها تطور التقنية الزراعية في أوروبا. فقد أظهرت دراسة جينية أن مهاجرين من الشرق الأوسط هم من نقلوا التقنيات الزراعية إلى أوروبا، مزارعون لا تزال معالمهم الجينية واضحة الأثر في التركيبة الوراثية الأوروبية.
وبذلك يكون الأوروبيون المعاصرون أقرب إلى سكان الشرق الأدنى الأصليين مما هم إلى النيولوتيين الأوروبيين.
إن أولى الزراعات النيوليثية التي اعتمدت في الشرق الأدنى تعود إلى النطوفيين (من 12000 إلى 10000 عام قبل الآن)، الذين قطنوا وادي النطوف في فلسطين. تمركزوا في أكواخ مستديرة واقتاتوا من الحصاد المنهجي للقمح والشعير البرّيين. كانوا يودعون محاصيلهم في حفر تؤمن قوت عائلة من أربعة أو خمسة أفراد لمدة طويلة من السنة. كانوا يعيشون في بيئة تنبت فيها أشجار اللوز والفستق البرية، وفيها قطعان الماعز والخواريف، مع الأبقار والخنازير، البرية. كما بدأوا بتدجين الكلاب قبل نحو 10000 عام، ولكن ليس لأغراض غذائية في طبيعة الحال.
مع اختراع الزراعة، بدأ العالم يشهد ظهور العنف بين الأغنياء والفقراء وبين الجماعات. وقد لاحظ الباحثون وجود آثار أمراض ووباءات وتوترات وشحّ في التموين تعود إلى فترة ما قبل 3500 عام في الشرق الأدنى.
بدأت القرى تدريجياً تحتلّ المرتفعات وتتحصّن. بعض الجماعات آثرت البقاء على صيغة بدو، بينما آثر البعض الآخر الحياة الحضرية. حينها، بدأ التنافس على المصادر بين المزارعين المرتبطين بأراضيهم والبدو الذين يعتبرون الأرض محطة يمرون بها.
هذه المنافسة، التي ترجمت أحياناً على صيغة نزاعات عنيفة، لن تنتهي إلا بنهاية القرن العشرين، مع ظهور الدول ذات الحدود المرسومة بدقة.
بالرغم من ذلك، لا يجوز توجيه اللوم إلى الزراعة، لأن هذه العملية قد استتبعت توافر الأمن الغذائي، خلقت فائضاً، وبدّلت في الطبيعة الحيّة.
إلا أن الإنسان قد أضلّ رسالة «النيوليثي» الأول. فقد تحوّل إلى ذئب بالنسبة لأخيه الإنسان، بينما كان بوسعه أن يخلق عالماً أكثر عدالة.
ففي أيامنا هذه، عدم المساواة فاضح. واليوم، بينما بوسع الطاقة الزراعية إطعام جميع البشر على الكوكب، يعاني أكثر من مليار بشري من قلة التغذية، ويموت يومياً عشرة آلاف طفل من قلة النظافة ومن سوء التغذية.