سلام الكواكبي *لم يكن الاعتداء الأميركي على سوريا، الذي أدى إلى مقتل مدنيين، مفاجأة بحد ذاته، ولكنه أعاد خلط أوراق الصراعات والمفاوضات وأحاديث السراديب السياسية والأمنية والإعلامية، والمواجهات العديدة القائمة في هذه البقعة الملتهبة من الشرق. وفي هذا الخلط جانبان مثيران للاهتمام، يتمثّل أولهما في التوقيت، والثاني في ردود الفعل. ففي التوقيت، وقع الحادث قبل أيام من الانتخابات الأميركية، وفيما تتابع المفاوضات غير المباشرة مع الإسرائيليين في كنف الجار التركي الطامح، وكذلك خلال الأيام التي فتحت فيها أبواب أوروبا بطريقة تجعل العودة السورية إلى نادي الاجتماع الدولي الانتقائي أكبر مما توقعه أكثر المتحمسين وأقلّ المشككين. وإضافةً إلى ذلك، هناك توقيت القيادة الأميركية (المركزية أم المحلية؟) للضربة، وتلقين درس في الديموقراطية (لرب أسرة مع أولاده الأربعة!)، في مرحلة تشهد فيها عودة العلاقات الدبلوماسية على أعلى مستوى بين الدولة السورية وشبه الدولة العراقية، وهي مبادرة تصب في مجرى الرغبات الأميركية في انفتاح عربي دبلوماسي على بغداد، الذي تتردد بالإقدام عليه حتى بعض أدوات واشنطن الوفية في المنطقة، لما لها من حسابات طوائفية وقرضاوية.
وتأتي الضربة «التأديبية» أو «التحذيرية» بعد مرور خمس سنوات على احتلال العراق، مليئة بالاتهامات لسوريا، إن لم يكن في تزويد المقاومة بالعدة والعديد، ففي تسهيل مرور عناصرها عبر الحدود الصحراوية الممتدة. وقد ارتفعت حدة الاتهامات هذه في فترات متعددة مهددة بالتدخل الحاسم لقطع طرق الإمداد. ولكنها هدأت بعد تصريحات لعسكريي الاحتلال منوهين بجهودٍ سورية وبانخفاض التهريب الحدودي كما معدل العنف الداخلي. ولقد وصلت هذه التصريحات أحياناً إلى حد شكر الجار السوري على جهوده في مراقبة الحدود. وبالتالي، فإن قيام المتحدثين باسم الإدارة الأميركية بالتبرير المتأخر، الذي سبقته تصريحات مسؤولي الحكم المحلي المسيّر المهنئة بالعملية، لا يمكن له أن يُقنع إلا مريدي هذه الإدارة في حلّها وترحالها، في كذبها وفي ادعاءها.
إضافة، فالعملية أكدت، وروّجت للعلامة المسجلة للقوات الأميركية التي تقوم بعمليات تعقبية دائماً وفي عديد من الدول، تكون نتيجتها مقتل مدنيين وارتفاع حدة الكراهية للأميركيين ولسياساتهم من جانب العامة والخاصة. وبالتالي، فهذه العمليات «الجراحية» الفاشلة، تساعد على تدعيم ما بات يسمّى الأممية الثورية المعادية لأميركا ومشتقاتها من أنظمة عربية وأدوات إعلامية. وما يزيد في الطين بلّة، أن هذه الأممية المستحدثة، تقع غالباً تحت سيطرة القاعديين وشبكاتهم، الذين يجدون في أوساط أتباع أميركا الهلاميين، دعماً مالياً يتابع مسيرة الأب المؤسس ويبحث عن شرعية دينية ووطنية مفقودة من خلال الانبطاح المستمر. وبالتالي، فدولٌ «معتدلة»، تركع في الصباح للسيد اليانكي، وتموّل في الليل السيد الملتحي، وهي في ذلك، لم تفهم الدرس أو الإشارة إلى أن هذا التصرف كان مطلوباً أميركياً في مرحلة سابقة يبدو أنها انتهت، أو أجّلت.
أما من جهة ردود الفعل التي تلت العملية، فهي تستحق وقفة لما احتوته من أبعاد اختلطت فيها الأنواع والأجناس، فكانت الغوغائية التي لا تروي من عطش إلى الكرامة المفقودة، وكان أيضاً الإحباط الذي عبّرت عنه بعض الأصوات الخافتة، وكان التشفي والنشوة.
فعدا بعض الإدانات الملتزمة بحدود اللياقة تجاه المعلم الأميركي الصادرة عن بعض السلطات العربية، نجد أن بعض الصحافة قامت بتفريخ أشباه معلقين برروا بحميّة شبه عقائدية حسن السلوك الأميركي الذي يقتل المدنيين، والذي يعتبر جزءاً من مراحل بناء الديموقراطية في المنطقة. وهو في أساسه، رغبة بريئة في إفهام الحكومات المارقة أن للتسامح حدوداً كما قرّر الأخ الأكبر المعصوم وصاحب الأفضال في إزاحة الديكتاتوريات وإقامة الاحتلالات ودعمها. وقد توافقت هذه المواقف مع ما صدر عن البعض إثر انفجار أيلول الماضي في دمشق، الذي حمل ثناءً مبطناً وقحاً للحدث، معتبراً إياه ثمرة طبيعية لدعم السوريين للإرهاب المصدّر إلى العراق، وبالتالي، فإنها «الرسالة التي تعاد إلى المرسل».
وقد اختلفت الدواعي، فمنهم من يبدّل أثوابه إثر كل تغيير أو دفعة علت أو انخفضت. ومنهم من يعتقد فعلاً بما يقول ويعتبر أنه قد حان الوقت لكي تدفع سوريا ثمن تدخلاتها في المنطقة. وبعض هذه التحليلات، تخيّلت بعداً عراقياً في قرار الهجوم وأعطته مشروعية «وطنية» لملاحقة الإرهابيين حتى داخل أراضي الجار السوري.
بالمقابل، قامت الصحافة الغربية وحتى بعض الإسرائيلية، بتحليلٍ موضوعي لما حصل في سوريا بعيداً عن التشفي النابع من مخيال ثقافيٍ مريض تميّزت به منطقتنا العربية. فعرضت كل الاحتمالات التي يمكن أن تفسّر عملية «رعاة البقر»، واستعرضت أبعاده الإقليمية والدولية وربطته بتحركات مماثلة في الشكل وفي النتيجة قامت بها القوات نفسها في أماكن أخرى من العالم.
والأنكى من ذلك كله، أن هذه الصحافة الغربية قد استعرضت ردود الفعل العربية، مشيرة إلى طبيعتها النابعة من خلافات مصالحية مع النظام السوري، لم تفلح كل محاولات التجرّد من إضفاء أية صدقية عليها. وقد أشارت الأقلام الغربية بوضوح إلى ضعف الاحتجاجات العفوية العربية، وحتى السورية، واعتبرتها دليلاً إضافياً على فقدان الحسّ السياسي في منطقة تراكمت فيها الاحتلالات والانتهاكات والقبليات والعشائريات والديكتاتوريات والطائفيات... لتحدّ من كل إمكان حصول ردود فعل غير «منظمة» أو مقررة ومضبوطة سلفاً.
قُتل مدنيون، أغلقت السفارة الأميركية في دمشق يوماً أو اثنين، وبعد يومين من قيام «الشريف» الأميركي بالإغارة على الأبرياء في أقصى الصحراء السورية، قام «القاضي» المحلي بالحكم على وطنيين سوريين في العاصمة دمشق بتهم لا يستطيع حتى عتاة الفقهاء فك رموزها، ليدعم بذلك ما وصلت إليه استنتاجات الأقلام الغربية من استعراض المرض العربي من الأعلى ومن الأسفل.
* باحث سوري