منار ديب
جاء جدّه من لواء اسكندورن، ملتجئاً إلى اللاذقية بعدما حُكم بالإعدام لتدريسه اللغة العربية والقرآن في عزّ الحكم الأتاتوركي والهيمنة التركية على اللواء. رجل الدين الذي عمل في التجارة استأجر مزرعة تُدعى السفرجلة في منطقة البهلولية بين حلب واللاذقية. والده العسكري تنقّل بين مناطق عدة، فولد عبد اللطيف عبد الحميد في حمص عام 1954، ثم انتقلت العائلة بعد سنتين إلى أقصى الجنوب في الجولان، حيث أقامت في عدد من القرى والبلدات التي تقع اليوم تحت الاحتلال الإسرائيلي كجبّين وحيتل والخشنية وفيق ثم العال التي دخل مدرستها وكانت تبعد عن البيت ما يزيد عن كيلومتر يقطعها سيراً على الأقدام.
سيعرف تجربة مماثلة لكن بشروط أقسى بعد أن يتسرّح الوالد من الجيش وتعود الأسرة إلى السفرجلة، فيصير طريق المدرسة شاقاً تحت الأمطار الغزيرة، وبين التضاريس الوعرة. في تلك السنوات التي تلت العدوان الثلاثي، ثم الوحدة السورية المصرية، والانفصال، وصولاً إلى النكسة، وفي تلك المناطق الريفية النائية والمعزولة، كان الراديو وسيلة الاتصال الوحيدة بالعالم الخارجي. وسيكون له حضور دائم في أفلام عبد الحميد، حتى إنّ أحدها سيحمل اسم «ما يطلبه المستمعون» (2003). في طفولته، حضر فيلماً سينمائياً واحداً عرضته سينما متنقلة للجيش في الجولان عام 1961، وكان من بطولة محمد سلمان ونجاح سلام التي غنت «ميّل يا غزيّل». «تأثرت كثيراً، وبقيت أياماً أقلد الفيلم» يقول عبد اللطيف.
المخرج السينمائي السوري الذي يستحضر باستمرار عناصر من طفولته، يرى أنّ «الدراما الكاملة تعني سلسلة من البشر، فيها أطفال، نجد ذلك في «ليالي ابن آوى» وصولاً إلى «قمران وزينونة» وهو فيلم أطفال، لكنه حكاية وطن. أما فيلمي الأخير «أيام الضجر» فهو عن ضجر أربعة أطفال، وما يتحمّلونه في ظروف سياسية حرجة». السيرة الاستثنائية لعبد الحميد جعلته ينشأ وهو على تماس مباشر مع الهمّ الوطني، وهذا ما برز في أفلامه التي لا تخلو من جنازة شهيد أو تحليق للطيران المعادي: «أنا ابن الهزيمة، عشت عدداً من الحروب، وأول شيء أتذكّره في حياتي هو هجوم طيران إسرائيلي في الجولان، حتى أنّني بقيت فترة طويلة مرعوباً من القمر والنجوم وكنت أظن أنّها تتحرك، أول معطى بصري التقطته عيناي هو الغارة».
العيد سيصير مناسبة لمشاهدة السينما. في كل أضحى أو فطر، كان وشقيقه يذهبان إلى اللاذقية من القرية، ويقومان بجولة على صالات السينما الثماني التي تضمها المدينة، فيشاهدان طرزان، ولوريل وهاردي، وشابلن، وأفلاماً هندية ومصرية. ومع الانتقال إلى اللاذقية للدراسة الثانوية، سيتعرف عبد الحميد إلى نوعية جديدة من الأفلام، ويشاهد روائع السينما الإيطالية في صالة «الكندي» الحديثة. لكنّه لم يفكر بأن يصبح مخرجاً، بل ممثلاً، كما كانت له علاقة خاصة بالموسيقى والغناء، حتى أنه مارس التلحين. حين دخل الجامعة لدراسة اللغة العربية، انخرط بكثافة في المسرح الطلابي، فمارس التمثيل والغناء والإخراج بل تصميم الرقصات. وفي 1974 تقدّم لبعثة دراسة موسيقيّة: «كنت أريد دراسة الموسيقى الشرقية في مصر، تقدمت لامتحان نظري فحصلت على 100 في المئة، لكن اللجنة استاءت من العود الذي أحمله، فقالوا إنّ البعثات هي إلى أوروبا، أي لدراسة الموسيقى الغربية، فلم أقبل». وفي العام التالي، حصل على منحة لدراسة السينما في موسكو: «أستاذي ألكسندر ستولبر وضعني على السكة، لاحظ تلقائيتي، والحسّ المضحك المبكي لديّ، وهو مخرج «الأحياء والأموات» الفيلم التراجيدي الشهير، لكنّه طوّر عندي الحس الكوميدي. أول عمل كتبته «تصبحون على خير» هو فيلم روائي قصير 1977 وتوقعت أن يبكي الزملاء لكنهم ضحكوا، فاستفزني الأمر، إلا أنّهم صفّقوا لي». ويلفت إلى أن «موسكو علمتنا أن نكتب أفلامنا. في أول يوم في الدراسة طلبوا منا أن نكتب نصاً».
بعد فيلم التخرج «رأساً على عقب» (1981) عاد عبد اللطيف إلى سوريا، فأنجر فيلمين تسجيليين هما «أمنيات» و«أيدينا» (1983). ثم عمل مع محمد ملص في «أحلام المدينة» (1984)، وشرع في كتابة فيلمه الروائي الطويل الأول «ليالي ابن آوى» الذي بدأ العمل عليه عام 1988، وظهر في 1989. في هذا الفيلم الذي أصبح جزءاً من ذاكرة السينما السورية، يستعيد شيئاً من سيرته الذاتية «أخذت تفاصيل من حياتنا، فأنت تحكي حكايتك، في القرية كانت أمي تصفر لتسكت بنات آوى، كان أبي يطلب منها ذلك. وكان المشهد يثير تساؤلي وربما ابتسامتي، شخصية الأب في الفيلم فيها مزاج أبي».
هذه الكوميديا الريفية سيستحضرها في فيلمه الثاني «رسائل شفهية» (1991) الذي سيحقق جماهيرية واسعة: «الإنسان يتكوّن في رحم أمه، ليس لديّ وصفة للضحك. إما أن تكون موجودة أو لا، نكتة واحدة يرويها 10 أشخاص، ويضحكنا واحد منهم فقط، هذا يعتمد على الملكة والمشاهدة والثقافة». ولا ينفي عبد الحميد وجود مصادر ومؤثرات في أعماله كالسينما الجورجية التي أسهمت في تكوين سينماه الخاصة. في فيلميه التاليين «صعود المطر» (1995)، «نسيم الروح» (1998) انتقل المخرج إلى بيئة مدينية، بعدما كرّس صورة سينما مناطقية مغرقة في المحلية. لكنّه يؤكّد أنّ هذه الخصوصية لم تمنع وصول هذه الأفلام إلى العالم وحصولها على جوائز في المهرجانات.
«نسيم الروح» حقق نجاحاً تجارياً كبيراً، وهو أمر نادر مع أفلام القطاع العام. هذا الفيلم الرومنسي أبكى كثيرين، بل إن هناك من شاهده 4 أو 5 مرات. كل ذلك دفع القطاع الخاص إلى التعاون معه في «قمران وزيتونة» (2001). أما «خارج التغطية» (2007) فأثار جدلاً لتصويره علاقة حب بين زوجة معتقل سياسي وصديق له يصل حد الوشاية به، لإطالة مدة بقائه خلف القضبان: «هو إنسان وهي إنسانة، وأكثر مَن حيّا هذا العمل هم المعتقلون السابقون. يهمني الإنسان الذي يتعذّب، والصراع بين الخير والشر. الزوج المعتقل هو دينامو الفيلم، وخلفيته، لكنّه مرتاح، ومَن يعاني هو الذي يقبع في الخارج».
عبد اللطيف عبد الحميد يقدّم في «مهرجان دمشق السينمائي» الحالي أحدث أفلامه «أيام الضجر» (راجع صفحة 19) كما يحتفي به المهرجان بتخصيص تظاهرة لأفلامه. وتصدر المؤسسة العامة للسينما كتاباً عن سينماه بعنوان «أنا والضجر وبنات آوى». كما يستعد للدخول في تجربة تصوير فيلم بكاميرا ديجيتال HD لمصلحة شركة «ريل فيلم» من أوربيت، لكنه لا يشعر بأي تحفظ تجاه هذه التقنية بل يقرّ بأنه كان ينوي تصوير «أيام الضجر» بواسطتها. هو متفائل بمستقبل السينما في سوريا «تتوافر في البلد الكثير من المواهب والكوادر، المسألة مسألة تمويل، والقطاع الخاص لديه إشكاليته، إضافة إلى توافر صالات العرض على الأقلّ لاستضافة أعمالك».
المخرج الأكثر إنتاجاً في سينما القطاع العام، يرفض القول إنّه مدلل من «مؤسسة السينما»: «ليس ذنبي إذا كان هذا المخرج أو ذاك يقدّمان سيناريو لفيلم كلّ 10 سنوات، هل حلّ فيلم من أفلامي مكان مشروع آخر؟ لديّ 10 سيناريوهات جاهزة، وأعمل بميزانية قليلة، أعرف وضع المؤسسة وإمكاناتها، وأتصرف وفق الميزانية التي بين يديّ. إلا أنّني أحتفظ بأربعة سيناريوهات يصعب إنتاجها لأن كلفتها كبيرة. كل مَن يعتبرني مدللاً، إنما يحاول من خلال هذه النظرة أن يخفي عجزه بشكل من الأشكال».


5 تواريخ

1954
الولادة في حمص من عائلة تعود أصولها إلى لواء الإسكندرون

1981
التخرّج من معهد السينما في موسكو

1989
فيلمه الروائي الطويل الأول «ليالي ابن آوى» حاز الجائزة الذهبية في «مهرجان دمشق السينمائي». وبقي في الصالات قرابة ستة أشهر. أما فيلمه التالي «رسائل شفهية» (1991)، فحظي أيضاً بمشاهدة واسعة

1998
فيلم «نسيم الروح»

2008
«أيام الضجر». فوز فيلمه الأسبق «خارج التغطية» (2007) بالجائزة الكبرى في «مهرجان وهران السينمائي»